لم يكن شباب السموات المفتوحة ليحتمل زاوية سجن الحاكم الضيقة و ليس الغرب
بسطحي حتى يدافع عن أنظمة يراها تهوي سحيقا خاصة و أن أوراق اللعبة كانت تتبعثر من
يديه، لكنه كان من الحذر بمكان حتى يساير الأحداث متشبثا بعمود الانتظار في أحيان
كثيرة، لكنه انتظار لا يفتؤ حتى يفصح عن دور.
... و أراد الشباب و أراد الغرب
أراد الشباب العربي أن يسقط الأنظمة سلميا من الميادين و ينشيء أنظمة تعبر عنه
حسب أسس و وقواعد تتماشى و العالم العربي ثم يبدأ مساره الذي سيضع كل معالمه، و
حين وجد نفسه أمام آلة موت نهمة تلتهم الأجساد بسلاسة آلة قتل لا تتمتع بأبسط حس
وطنية أو قيم انسانية يسيرها عجزة و طواغيت ارتبط وجودهم بالكرسي و الحكم، وجد هذا
الشباب نفسه في معركة مفتوحة لا رجعة و لا تول عنها غير متكافئة كل الوسائل فيها
مشروعة، لم يجد بدا من الاستقواء بكل ما يمكن أن يشكل قوة ولو مؤقتة و قد دفع
بنفسه إلى الساحات و الشوارع و الميادين يصرخ و ينتزع كرامته و انسانيته و حريته
من تحت أقدام من داسوها. أصرت الأنظمة البائدة أن تتركه في إشكال حتى و هي تحزم
حقائبها و يُرمى بهما معا إلى مزابل التاريخ. فبقي بعدها في إشكالية طبيعة الصلة
بأولئك الذين دعموه و ساندوه حتى أسقط النظام أولئك الذين دعموا لا لوجه الله بل
طمعا و بحثا مستمرا عن دور. و همهم الآن أصبح أن يُنظر إليهم غدا كشركاء في الثورة
ليسمح لهم لاحقا بلعب دور. سياسة التقسيط. متحررا و محررا من أغلال الصمت و السجون
و الذل واصلت الساحات هزيجها، و عكر الغرب صفو أجواء الربيع، و ربما ما لا يعرفه
الكثيرون أو لديهم حوله شك هو أن ذلك الجيل الذي استطاع أن يهزم خوف عقود و يلقي
بالتاريخ خلف التاريخ هو جيل قادر على أن يؤثر في المناخ و اتجاه الريح و يعرف
جيدا قواعد لعبة عاش عقودا تحت نير و ازدواجية معايير ضوابطها و غش لاعبيها.
نظرة بسيطة توضح تفاصيل مشهد لم يمنح الربيع العربي الغرب فرصة لحبك سيناريوهه بدقة تربك المتلقي العربي
خاصة في وقت تنفجر فيه مواهب هذه المتلقي و قدرته على اللعب و الفهم.
فكيف لعب الغرب ؟...
في تونس احترق البوعزيزي، لم يعرف الغرب حينها أن الذي احترق هو خوف جيل و
معطيات حقبة زمنية قضتها أجيال عربية خلف التاريخ و خلف الشمس تائهة في جغرافيا
الخوف و القهر. لم يفهم الغرب في البداية ما يحصل ربما ليس ضعف قدرة منه على الفهم
بقدر ما هي قوة الصدمة و ووقع الذهول، و حين فهم لاحقا و هو يرى طائرة بن علي تحلق
فرارا ترك شباب تونس و شعبها يواجهون مصيرهم ، ببساطة لم يكن في تونس نفط و لا
قاعدة عسكرية امريكية بل بالعكس كانت بلد استجمام و سياحة و راحة و هي أمور قد
يستغني عنها الغرب خصوصا في فترة فيها الازمات المالية و الاقتصادية و عليها
الأزمات السياسية. و فوق ذلك تونس بعيدة
نسبيا عن اسرائيل و أشياء الشرق الأوسط على ارتباك و اختلاط معطياتها.
مصر دولة لها وزنها في العالم العربي و لها حدودها مع اسرائيل و لها غازها و
فيها مبارك وسيط الغرب عند العرب أو على الأصح مبعوث الغرب في المنطقة، فوق ذلك
مصر قوة عسكرية لا يستهان بها و لها تأثيرات شاملة على الأوضاع. ماذا فعل الغرب؟
تفرج ثم تفرج ففي غرارة نفسه يعرف أنه لا يمكن أن يجد مع أي كان من مصالح خدمة له
و لإسرائيل بقدر ما كان يجد مع مبارك. تفرج على الموت و هو يتمنى فشل الثورة، و
حقيقة كان يتفرج على قطار الثورة يتقدم و يتمنى لو مر هذا القطار بدول أخرى غير
مصر بعد تونس ليجد فرصة يخطط فيها و يتوقع. لكن الظاهر أن أجهزة توجيه قطار الثورة
و قائده لم يكونوا على صلة بأجهزة السي آي أيه و لا ساكنة البيت الأبيض تم الأمر
بسرعة أكبر من قدرته على التخطيط و لم يجد بدا – و الأصوات من الشوارع و الميادين
و البيوت تتعالى مطالبة وبالرحيل لم يجد بدا و مصر التاريخ تستعد لتلقي بكل خونتها
إلى ما خلف التاريخ. لكن ماذا فعل ليوقف آلة مبارك و بطانته، لا شيء. ويوم سقط
مبارك بادر يهلل و ينتقي عبارات الشكر و التفحيم للشباب المصري، كان يريد أن يعوض
عن جريمة صمته لأشهر، لكن تهليله لم يطل و تأكد له خطر الغد عليه و حينها هاهي
مصر. تعيش تحت حكم عسكر يقود ثورة مضادة و يضرب الثورة المصرية كل على رأسها ضربة
قاسية. و من هذه نلمس بوضوح حضور الغرب. منذ سقط مبارك وثورة مصر و شباب مصر
يعيشون صراعا خافيا و ظاهرا ضد عسكر لا يريد له الغرب أن يترك بين الثائرين و
الغاز و اسرائيل و نفوذه في منطقة الشرق الأوسط خصوصا. من الدستور للجنة التأسيسية
للانتظار للانتخابات للمحاكمة للحكم كلها سيناريوهات عمل العسكر على رسمها بدقة
لاختراق الثورة و جدارها و لكن يأبى ميدان التحرير.
في ليبيا وجد الغرب فرصته ليضرب أكثر من 100 عصفور بحجرة واحدة، أولا يعوض
العرب عن صمته المقصود تجاه مصر و تفرجه على تونس، ثم يضع يده على نفط ليبيا و
مستقبلها و فوق ذلك يتخلص من شخص غريب الأطوار بغباء و ديكتاتورية القذافي الذي
يحمل الخيام و الجمال إلى قصورهم و يبتزهم بأمواله و علاقاته و الذي يجعلهم غباؤه
ينفتحون عليه أكثر من اللازم فعرف عنهم أمور كثيرة هدد في نهاية حياته بكشفها، لا
أمن ليبيا و لا سلامة شعبها كانت على لائحة أسباب التدخل. صار قزم كساركوزي يدخل
بلاد العرب فاتحا يستدعي صورة نابليون، حتى هذه الخطوة ندم عليها الغرب لاحقا و مرد
ذلك دائما أن حركة قطار الثورة أسرع دوما من تفكير و تخطيط الغرب، فليبيا فتحت
سهبا و نهبا للقاعدة و أزواد و غيرهما. و تعيش فوضى سلاح اليوم لم يضعها الغرب في
الحسبان.
في اليمن، هنالك غير بعيد القواعد العسكرية الأمريكية و الخليج و نفط الخليج،
و ما أدريك ما الخليج بالنسبة للغرب خاصة و أن تجربة مصر و تونس لم تكن مشجعة بهذا
الاتجاه فسارع الغرب لما سماه حلا توافقيا، لم يكن حلا توافقيا بقدر ما كان رغبة
غربية حقيقية التقت برغبة أخرى خليجية من طرف الملوك و الأمراء الذين طالما صلوا
ليتجنبهم قطار الثورة و يختار له محطات بعيدا منهم بحيث لا يسمعوا أصوات محركاته
التي تغض مضجعهم. سخر الغرب كل الهيئات و المنظمات الدولية التابعة له ووسيلة
سيطرته وتولى الخليج الجانب المادي المالي و التجاري و خرجوا بما سموه اتفاق، اتفاق يعلم اليمنيون و العالم رغم صمته أنه
جائر في حقهم و حق ثورتهم و شهدائها، قبلوه على مضض و لم يعدم الغرب وسيلة
لاقناعهم و إسكاتهم فمن جائزة نوبل كما حصل يوما إلى أشياء أخرى. و اليمن اليوم
قاعدة و ارهاب و صراع، كانت لتكون أفضل لو استمرت الثورة فيها لكن لم يرد الغرب
ذلك.