Sunday, March 4, 2012

.... و كان لابد من الربيع



عبد الله ولد محمد عبد الرحمن
كاتب موريتاني
 

إن الثورة كثورة ماهي إلا ذلك الشعور الغامر بالحاجة إلى شيء ما كثيرا ما يرتبط  بالضرورات الإنسانية من حرية و عدالة و كرامة  و الذي يتلبس الرأي الجمعي في نفس الوقت. و يكتسح الإرادة البشرية مسخرا إياها في اتجاه واحد، سالبا إياها القدرة على التفكير مرة ثانية من شدة سطوته المرتبطة بعمق الشعور الداخلي بعيدا عن مؤثرات خارجية تبدو في لحظة كتلك خارجة عن النسق و السياق. فجأة تتجه تلك الإرادة الجمعية إلى وجهة واحدة بهدف واحد هو قلب الواقع  و المعطى دون إعطاء كثير وقت للتفكير في الكيف و المتى ؟ قلب ذلك الواقع انطلاقا من إصرار أقرب هو للاشعوري تتكسر أمامه الحواجز و تنقلب معادلة البقاء منحصرة في مدى القرب من الغاية و الهدف. فالثورة هي نتاج شرار و شعور متجذر ينطلق من العميق البشري الآدمي تمرا على وضع يهدد و جوده و كينونته و حقيقته كنفس آدمية لها حاجتها و ضرورتها و مقاييسها الإدراكية. فالثورة هي التي تخلق نفسها مبلورة ذلك الشعور الذي يصرخ بأوان ساعة الصفر و يضع نقاط التحول و نقاط النهاية و يعطي المسميات و القوالب و يعطي السمات و الصفات و الشعارات، هي القوة البشرية الكامنة التي و من سحرها و لتتجسد ثورة تنفجر في زمان و مكان واحد كدقة الساعة البيولوجية. فلحظة الانفجار تلك بكل معطياتها الزمانية و المكانية و الظرفية هي دليل على أن الثورة نتاج طبيعي شامل لوضع قائم  و مستمر، و حتى دليل على تقارب مستوى القدرة الجمعي على التحمل. و تحين الساعة و ينفجر الإنسان روحا و جسدا صرخة مدوية في وجه الواقع صرخة تهتز لها الإنسانية التي في أعماقها تتجسد لحمة رغم اختلافاتها الثقافية و الفكرية و العرقية و الدينية. صرخة تنطلق حين يكتمل اليأس من المستقبل، نعم قد يتحمل الإنسان بقدرة هائلة ظلم و مأساة و قتامة واقع، لكن فقط مادام هنالك أمل في مستقبل مختلف و في قادم أجمل. يتحمل الإنسان ظلام سنة ما دام على يقين أن أياما مشرقة ستأتي بعد ذلك. لكن أن يتحمل و إلى الأبد يوما توحي كل معطياته بغد أكثر قتامة و ألما فتلك لحظة الثورة إذن.
فالثورة التي هبت نسائمها من شاطئ البحر الأبيض المتوسط معانقة جريان النيل ممتدة أعاصيرها و زلازلها تهز العروش وتقتلع الكراسي، انطلقت حين تأكد الإنسان العربي من معيطات واقعه و مستوى قدرة طغاته على فهم الصمت و قراءة ملامح التحمل التي جثمت على الوجه ذي الملامح العربية لعشرات السنين انطلقت حين  أطبق اليأس على رؤية الإنسان العربي: لا غدا مادام اليوم هكذا رجل أمن في كل مقهى و زنزانة لكل من لا يسبح بحمد النظام و منفى لكل من لا تروقه حكمة سيادته، بل زاد الأمر امتهانا حين اصبحت  السيدة الأولى تتصرف ملكة حاكمة بأمر السلطان، و كان المواطن العربي يتحول إلى جزء من تركة الحاكم يعد لتوزيعها بالقسطاس بين الأبناء و رجال الاعمال المقربين لم تكن معطيات ذلك اليوم لتحمل عنوانا أبلغ من تلك لحظة الثورة إذن.
تحمل الإنسان العربي الجوع و البطالة و الفقر و الظلم و القهر ، تحمل التعذيب و التأنيب و الترهيب و الابتزاز و الانتهاز ، عرف أن يستوعب وجود رجل الأمن و المخابرات  بينه و حديثه لزوجته وجوده في مطبخه و غرفة نومه و بينه هو و تفكيره، عرف أن يتعايش مع سلطة النظام، و أن يتحمل المحسوبية و الرشوة و الزبونية، و أن يتحمل الاستيلاء على ممتلكاته و  انتزاع أراضيه وفوق ذلك المتاجرة به و بقضاياه و بمصيره كإنسان عربي، تحمل حاكم النظام يتقرب بممتلكاته لشقراوات أوروبا و سمراوات أمريكا، تحمل الطغمة الحاكمة تقضي العطل الصيفية و الشتوية في الجزر و مدن الألعاب و الأحلام في أحضان السهر و السمر و البذخ و هو يفترش العراء في حي شعبي في ضاحية من ضواحي العواصم العربية، تحمل نفطه تبتاع به قنينة خمر راقية. تحمل السيدة الأولى بنظارات الكوتشي تتصرف في بيت المال كحساب بنكي خاص.
 تحمل كل شيء  كل شيء على أمل واحد. هو رحيل هذا الحاكم ليس عن السلطة فذلك أمل قطعته لديه سنًة التزوير في الانتخابات و التهجير في صفوف المعارضين و هو أمر تحمله المواطن العربي أيضا، نعم ليس أمله في رحيل الحاكم عن السلطة، بل أمله في رحيله عن الحياة، كان بقاء هذا الأمل بين كل تلك الأشلاء من الأحلام المدمرة و الآمال الضائعة هو أن يوما كهذا لا بد أن يأتي، لا يمكن أن يرده لا تزوير الأصوات و لا الصرف على الحملات و لا رشى رجال الأعمال و صفقاتهم، يوم كهذا لا بد أن يأتي لا يرده النفط و لا الحساب البنكي فقط لابد أن  يأتي. لكن يوم انقطع ذلك الأمل و الإنسان العربي يرى كل حاكم عربي بصدد تهيئة إما إبن أو مقرب و حليف لخلافته في ذلك اليوم بالذات أيقن ذلك الإنسان أن خلاصه ليس في الانتظار أبدا، بل الانتظار الآن هو نوع مختلف من الانتحار. انتشر ذلك اليقين، فبيضة الثورة قد بدأت تشعر بسخونة و حرارة اليأس و أخذت تنفقص، نعم كانت خيمة المواطن العربي قد ملت صقيع برد الشتاء و صفيع حرارة الصيف و كان لابد من فصل جديد بعد عقود تعاقب فيها الصيف و الشتاء محملين حقائبهم بأجساد المواطنين الذين قتلتهم السجون و المنافي و الجوع،  كانت بيضة الثورة قد نضجت فانفقصت عن سيل آدمي و طوفان من الغضب اجتاح كل شيء التهم السنين العجاف و البقرات السمان ، التهم الصمت و الكبت، و تحولت الشعوب زيتا و كل محاولة من الأنظمة البائدة للتشبث بالحكم هي نار، و قلب ذلك الإنسان المفاهيم فصارت حياته التي كانت موتا و الثورة الخطوة الأولى إلى الميلاد، إنه نوع من الانبعاث و صرخة الميلاد. ما أصبر الإنسان و أشد طاقته الاحتمالية على كل ما لا يؤدي إلى استلابه كرامته و انسانيته و حريته بشكل مطلق. هكذا كانت الخلاصة بعدما بدأت الثورة تكشف كل الأوراق الخافية و تحرق كل الأقنعة التي استخدمت على مدى عقود من الزمن. و بدأ الربيع العربي و في أجواء الربيع يكون الذهن شبة صاف لتأمل الماضي و معالجة الحاضر و بناء المستقبل الأفضل.
إن الحقيقة التي تكشفها الحركة الثورة في العالم العربي تباعا هي أن حكومات الاستقلال حتى أيام الثورة هي أفضل الحكومات التي عرفها العالم العربي، و ما عقبهم تتفاوت أفضليته في مستويات أقل، أفضلية اغتالتها في أحيان كثيرة الخلفيات الفكرية و تأثيرات الحركات و الاستقطابات و اغتالتها النعرات الطائفية و العرقية و المصالح الضيقة و الاستراتيجيات المنعدمة في ظل دولة خرجت للتو من كنف استعمار يدعها تحت  الوصاية. فلا الحركات القومية و لا الاشتراكية و لا الاسلامية ولا غير ذلك استطاعت أن تستجيب لمطالب الشعوب و متطلباتها، و لم يتح لهذه الشعوب أبدا في ما مضى فرصة التعبير عن آرائها و ممارسة اختياراتها و إسماع صوتها بحرية. مع الزمن تملكها الروتين و أخذت تعتاد الوضع و استحكمت فيها عملية التخدير محلية الصنع و المستوردة أحيانا، إلى أن انفجرت تراكمات السنين و اتحدت الآهات و الأنات المكتومة، و تشكلت الأنفس و الذوات المطحونة أصواتا تهتف بالرحيل و التغيير و أجسادا تحترق و تُدهس صامدة أمام الحديد و النار، كانت بوصلة الإرادة الشعبية الجمعية قد تحولت إلى اتجاه وحيد و هو رحيل النظام، كانت الشعور الجمعي قد حدد وجهته و اتخذ قراره. تشكلت الذوات المطحونة إرادات تحطم كل الأشياء على صلابتها، الغريزة الاستبدادية، و غريزة التمسك بالسلطة و الخبرة الأمنية في فن الرقابة و الاختطاف و التغذيب، اجتاحت صرخات تلك الأجساد المطحونة المدى و اخترقت الحدود و المسافات. لملمت تلك الذوات شتات الإنسان العربي و عادت به ، و أعاد الإنسان العربي التوازن للطبيعة فلا بد من فصل للربيع.