Saturday, January 12, 2013

عرض الخميس



كانت إبر الساعة تتشير إلى دقائق قبل تمام الخامسة مساء، حين اقتحمت تلك الشابة الممشوقة القوام ذات البنطلون القرمزي الأنيق علينا خلوتنا نحن و الأستاذة باللغة التركية، و في عجالة أوصلت الرسالة للأستاذة و كنا نستمع و نتلقف عبارات مشتتة لا تصلح لتركب معنى، كل ما عرفناه حينها أن الأمر يعنينا. كنا ننتظر بشوق لنعرف مضمون الرسالة، و حين توجهت إلينا الأستاذة و قدمتها بلغة تعرف أنها تليق بطلاب تعرف جيدا مستواهم خاصة و أنها منذ قليل كانت توزع نتائج آخر اختبار، أفهمتنا أننا مدعوين لحضور تسجيل تلفزيوني لبرنامج عرض مباشر: عرض الخميس. فكرت في أنها تجربة مهمة خاصة لإكتشاف ت ر ت و هي مؤسسة التلفزيون التركية، فهذه فرصة قد لا تتكرر لي ، قبلت أنا و البعض الدعوة، بعضنا مباشرة و بعضنا  بعد تردد و رفض آخرون. دقت إبر الساعة السادسة باب غرفتنا لتنبهنا على أنها ضاقت بنا و آن وقت الخروج و على طريقتها ودعتنا الأستاذة و تمنت لنا وقتا ممتعا. هل كان العرض ليكون بمقدار أمانيها؟ خرجنا "تومر" نتوقع أن باصا غير بعيد ينتظرنا ليقلنا، كان الدليلان رجلان متفاوتان في الطول يعرفون من الانجليزية أقل بكثير جدا مما يعرف صديقي في السكن من التركية و الذي قال لي صباح ذلك اليوم أنه حتى اليوم لا يعرف أكثر من مرحبا و لم أفهم..... تبعناهما و قطعنا شارعا و اثنين، ثم فكرنا أن الاستديو أقرب مما تخيلنا و يمكننا الوصول إليه سيرا على الأقدام، ثم لا حظنا أننا نتجه إلى ميدان تاكسيم و لا نذكر أن مقرا للتلفزيون هناك، عندها تكاثرت الأسئلة المعلقة في رأسي و أنا أكثر شيء لا أطيقه في هذه الدنيا الأسئلة العالقة، فنحن لا نعرف طبيعة البرنامج و لا متى يبدأ و لا متى ينتهي و نسير و نحن لا نعرف إن كنا سنركب طائرة بعد السير أو قطارا أو ربما باخرة أو لربما نحد نفسنا بعد دقيقة في الاستديو. فناديت على الرجل الطويل الذي لا تبدو تجربته طويلة في مجال تسيير الرحلات، و سألته بلغة تركية مكسرة بل مهشمة استطاع التقاط معناها: هل الأستديو قريب أم أننا سنركب باصا؟ قال لي بلغة تركية خاطفة ما فهمت منه أنه يوجد باص.
تقدمنا و كان صديقي الإفريقي يلتفت إلي من فترة لأخرى ، هل تعرف أنا لست مرتاحا لهذا الأمر ، أشعر أنه مرتبك و إن كان الأستديو بعيدا سأنسحب، و كنت أصر عليه لينتظر. حين وصلنا ساحة تاكسيم و قفنا جميعا ننتظر باصا افترضنا أنه سيكون جاهزا قبلنا، انتظرنا لنصف ساعة في برد قارس هربنا منه إلى الرقص أحيانا و الضحك ثم شغلنا موسيقى بوب و راب ساخنة علها تنفع برودة الطقس، ثم نظرت لأصدقائي حولي و قلت لهم أظن أن أدلائنا لا يعرفون الطريق حتى. و كانا واقفان هناك أحدهما يأخذ بيده ورقة تمزقت من كثر ما احتفظ بها. في النهاية برز باص صغير على الجانب الآخر من الطريق و طٌُلب إلى السيدات الذهاب إليه. و بقينا نحن. و كان صاحبي يصر على المغادرة حتى قررنا أن نغني له أغنية : لا تتركنا.... و وعدناه بأننا سنغنيها له في الباص، فالمفترض أن عرض الخميس و ما قبله و ما بعده تكون أجواء سعيدة. ثم أصر إلي هذا الصديق و قال لي: تعرف ! في كل حياتي حين تحدثني نفسي بأن شيئا سيحصل . يحصل لذلك أسف أظن أنني سأغادر، في تلك اللحظة أيضا أردت أنا أغادر ، لكن كنت لا أزال أريد أن أكتشف كواليس و بعض دهاليس ت رت.
رافقت صديقي حتى محطة ميترو تاكسيم و تمنيت له مساء سعيدا و تمنى لنا وقتا ممتعا. عدت و أخذ منا الإنتظار و البرد و الباص الأول لم يغادر ، ثم ظهر باص ثاني بنفس الحجم. و انطلقنا و كان رفيقا لنا في الرحلة عن يميني منزعجا من موسيقى يستمع إليها صديقي عن يساري، ووصل به الانزعاج حد التصرف بطريقة لم تكن غاية في اللباقة، و صديقي أنا أيضا قضى أربع ساعات في الدرس و ساعة في البرد و لم يكن في وضع أيضا يجعله طويل البال أو بارد الأعصاب فرد على الرجل ثم بسرعة هدأ الجو و لطف، ثم شيئا فشيئا تعارف الجميع من حولي بعد أن رحل الرجل الغاضب إلى مكان آخر. و كان حاجز اللغة حاضرا ، لكن كانت لغتنا التركية المكسرة كفيلة بإيصال رسائلنا التي لم تكن في قمة التعقد.
طال المسير فنظر إلي صديقي و قال بفرنسية افريقية صرفة: هل نحن في طريقنا إلى أنقرة؟ تبدو لي فكرة جميلة فأنا بحاجة للذهاب إلى أنقرة لكن طبعا ليس في هذا الوقت و لا في هذه الوضعية. بين صمت و موسيقى خافتة و تذمر واصلنا الطريق. و وجدنا أنفسنا ندخل مطعما لا نعرف في أي جهة من اسطنبول و لا إن كان في اسطنبول أصلا. و جاء بعض عمال المطعم ووزعوا كؤوسا من الياوورت  بعدها تناول كل واحد قطعة صاندويش، لم يبد الأمر في قمة الضيافة. لكن نظرنا للأمر كفعل مجاملة عادي و ليس عشاء رسميا مثلا. بعد الصاندويش تبادلنا أطراف حديث بارد فنحن متعبون جدا. و الأمر المشترك بيننا جميعا مع التعب، هو أنه لا أحد منا يعرف أين نحن و لا أين نتجه؟ فقط في طريقنا لعرض الخميس.
خرجنا من المطعم و نحسب أننا لا زلنا سنركب الباصات و اكتشفنا  أن الباصات اختفت و في طريقنا كان أمامي شابان سقطت على رأس أحدهما كومة بحجم حجرة من الثلج بدا أن شبابا على مسافة منا رموها عن قصد أو غير قصد ، غضب صاحبي و فكر في أن بإمكانه العثور على الفاعل ثم حين نظر خلفه تبين له أن الأفضل أن يتابع مسيره. و صلنا بابا على مرتفع يطل على مدينة تشبه إضاءتها مدينة اسطنبول، هي اسطنبول فعلا لكن نعرف ذلك بالتقدير لا بشيء آخر. تجمعنا لحوالي ربع ساعة أخرى هنالك تعرفت فيه على شباب من الكاميرون و غانا  و افغانستان و كانت هنالك تونس و اليمن و السودان و سريلانكا و ملامح من أوروبا الشرقية و غير ذلك جنسيات كثيرة من جهات من العالم مختلفة. كنت أتحدث مع هذا فرنسية و هذا انجليزية و تلك عربية و أجدني مع أولئك مثلا مضطرا لتركيب معنى بالتركية. فتح الباب و كان الجميع قد مل و تعب و كره العرض و حتى فكرته أصلا.
كانت هنالك بوابة اوتوماتيكية على الجميع أن يمر منها و كانت المحفظات أيضا تدقق. و وصل بعض الجمهور التركي أذكر منه الشابتين عن يساري حيث كانت إحداهما تضع أحمر شفاه داكن و حلقة في أنفها، ثم صديقتها التي كانت تنظر إلينا مستغربة شأن الكثيرين ممن هم خلفها، ربما لم يعتادوا ملامح كتلك في أماكن كتلك. ثم أرادت صاحبة حلقة الأنف أن تجرب انجليزيتها فسألتني بسؤال يشي بمستوى انجليزية بقدر ارتفاع محطة الميترو حيث تركت صديقي عن الأرض. من أين أنتم؟ قلت لها: من بلدان مختلفة  و حين رأيت على ملامحها أنها لم تفهم لجأت للغتي التركية و فهمت قصدي. ثم اكتشفت هي  انجليزيتها غير كافية لمتابعة الخطاب فتحدثت بالتركية لتعرف لاحقا أيضا أن تركيتي أنا غير كافية لمثل ذلك الحوار فصمتت و اكتفت و صديقتها و من وراءهم بالنظر و الإبتسام. في تلك الأثناء و أنا جانب صديق لي في الخلف اكتشفنا أن ضجة تحصل في الأمام، مردها أن صديقينا و صلا مع سيدة  تبدو مسؤولة عن شيء ما لم نتبينه ذلك المساء. وقالا أن بعض أصدقائنا غير مسموح لهم بدخول الأستديو و السبب أنهم " ملتحون" هنا انتابتنا حالة من صمت الذهول و عدم التصديق، و قلنا بلسان واحد شرقينا و غربينا و أبيضنا و اسودنا و ملتحينا و حالقنا . إن لم يدخلوا هم فما نحن بداخلين. و انتظر الجميع دقائق ليصل خبر مفاده السماح لهم بالدخول. كنا جميعا ننظر لبعضنا مصعوقين غير مصدقين حتى لم نجد ما نقوله غير أن وجوه بعضنا احمرت و أطلق بعضنا عبارات إدانة بالأنجليزية أعرف أن صديقتي التي كانت تسألني فهمت منها أكثر مما فهم أولئك الذي كانوا أمامنا. قلنا لهم : أدخلوهم و من بعد ندخل نحن. دخلوا و دخلنا و حسبنا أننا متجهون إلى الأستديو ، لنجد أنفسنا مجمعين مكدسين في غرفة خلف الأستديو. جاء شخص و بدأ ينتقي يريد أن يدخل هذا و يخرج ذاك حتى حسبنا أنفسنا قطيع شياه يختار منها صاحبها الصالح للبيع و للذبح و للتنمية. أصررنا على أن يدخل أولا أولئك الذين رفضوا إدخالهم في البداية . فأدخل واحدا منهم و أدخل بعضنا، ثم اكتشفنا أن النساء المحجبات تجري لهم تصفية إلى جانب من الغرفة لنفاجأ بتصريح آخر أن المحجبات سيتم إدخالهن و إجلاسهن في مكان لا تصل إليه الكاميرا. وجدنا أنفسنا نختبر قدرتنا على تحمل الصدمات الإنسانية . ثم جاءت الأخيرة ، حين أراد صديق لي من الدخول ، فرد عليه من يقف عند الباب ، بالنسبة لك ، ضروري أن أجري مكالمة، و حصل نفس الشيء مع صديق آخر لي كان يجمعهما أن بشرتهما سمراء داكنة. كانت هذه الضربة القاضية التي انهرنا بعدها و لم نستطع التحمل ، لدرجة أننا كلنا شعرنا و أنه بإمكاننا التحدث بالتركية، فصببنا وابلا من الاستنكار لم نعرف حتى بأي لغة. أذكر جيدا صديقتي التونسية حين أرادت أن تتحدث إلى الرجل بالتركية عله يفهم فلم تجد من التركية غير كلمتين وو جدت لغة الإشارة بعدهما الأنسب فأشارت ما يفيد بأن هذا التصرف جنوني ثم كانت أخرى مذهولة تتساءل إن كانت هي حقا في تركيا فيبدو هول الصدمة أثر على معطيات تفكيرها الزمكانية. ثم وجدتني أتحدث لآخر بلغة أكتشف لاحقا أنها كانت خليطا مادة الإنجليزية فيه هي الزائدة. إلا أن اللغة التي فهمها الجميع هي تلك الوجوه المحمرة و الملامح الغاضبة. حيث من السذاجة أن تواجه نخبة جامعية من كل الثقافات و الحضارات بمثل تصرف بهذا القدر من الإنحطاط القيمي و الإنساني. كان عرضنا على وشك النهاية فعرض الخميس لم يكن عرض ت رت ، بل كان عرضا شاهدنا نحن فيه كل أنواع التمييز على أساس الدين و العرق . لولا ذلك الرجل القصير الذي تفهم و بدا متعاطفا جدا لكان الغضب ليصل بالجميع هنالك حد الإنفجار.
عدنا صامتين و من تكلم يتكلم بحنق أو من يصمت و يتنهد لا يصدق. حينها بدأنا نحاول تلطيف الجو المتوتر المشحون، فحاول البعض التفكير في أن كان سيلحق عشاء مطعم الإقامة، و فكر البعض في جمال فتيات رآهن في ذلك العرض. و في ظلام تلك الليلة ألقى بي الباص على رصيف غير بعيد من إقامتي ، دخلت محملا بذكريات عرض أليم. كانت تلك الليلة في ذاك المكان شاهدة على حدث ربما يجربه معظمنا لأول مرة في حياته. لأول مرة يحضر أي منا عرضا من ذاك القبيل.