Thursday, January 2, 2014

جزء من نص : المستوطنة

طيلة أعوام خمسة تزيد   حاولت أن اعتاد الأشياء من دونك، الرقص و المقاهي   والصمت و الأرصفة من دونك ، أن أجرب الهروب و التشتت و التأمل أن أجرب ضوء القمر ومشاهد غروب الشمس و شروقها و حركات موج البحر و هدأتها حاولت أن أجرب المدن دون ملامح طيفك التي تترصدني، رأيتك في صفوف واقفة تنتظر ختم دخول بلد أو الخروج من آخر، رأيتك في غرف انتظار حتى و انا أتفرج من خلال نوافذها الزجاجية العريضة رأيتك أحيانا تتجولين بين عمال صيانة الطائرات ، رأيت تحملين أوراقا عند مخارج المطارات مكتوب اسمي عليها ، و رأيتك تلتقطين الصور في شوارع مكتظة في مدن مختلفة، رأيتك في ساحات موسكو الحمراء و شوارع غرناطة الرمادية، حاولت ووجدتني أراك في قطارات اسطنبول المزدحمة و فوضى الحركة  في مركز  حي باب الجزيرة في العاصمة التونسية، حاولت أن اعتاد الأرصفة و مقاعدها الخشبية الفارغة دون زياراتك و أن اعتاد الأحاديث العابرة مع صياد عجوز صابر حتى في ساعة متأخرة من الليل يضربه برد المدينة متسمرا بفنجان شايه الأحمر و جاكته السميكة،  لكنك كنت هناك، حين قاطع صمتي و سألني من أين أنا و أراد أن يستفسر عن ما أفعله هناك، كان علي أن أقول له أني أتيت لموعد معك ، كانت تلك لتكون الإجابة الدقيقة ، حين أدخل محل بيع العطور و اتحدث حديثا قصيرا مع صديقي البائع ، نحن يا عزيزتي معشر المتسكعين لدينا قدرات خارقة في صناعة الأصدقاء العابرين و الدائمين ، حين أحاول اختيار عطر يناسب مناخ المدينة الجديدة و معاييرها أجدني اتجمد جانب المكان المخصص لعطرك المفضل ، اذهب عنه و أعود إليه ثم يقرر الصديق بعد أن يقتنع من استحالة التأثير على اختيارك ، يقرر أن يعطيني منه قارورة، حين اخذها أخبر نفسي غاضبا منها أن هذا عطر من اختيارك و ليس من اختياري ، و أحاول أن اقنعها أننا صرنا حياتين و شخصين و اختيارين ، لكن المسكينة لا تقنعها بعد الاستخدامات اللغوية للمثنى في ما يجمعنا.
ألوان ملابسي لا زالت تلك التي تركت ، حاولت الفصول على كثرتها و النساء على تعدد خلفياتهن الثقافية و العقدية و على ثقافتهن المتقدمة جدا في مجال الموضة و دنيا الألوان حاولن إقناعي، باسقاطات على لوني و ما يناسبه و ما لا يناسبه، لكن اختيارك هزمهن جميعا، لا زالت نفس االوانك احيانا حين اريد أن اقنع نفسي بأني لست ضعيفا امام ذاكرتي إلى هذا الحد و احاول ان ارتدي ألوانا اخرى ، لا تقنعني تماما كما لا شيء يقتنع أن أشيائنا جزء من ذكريات أو ذاكرة. حين اذهب لأي مطعم مع أي كان أشعر بالاحراج لأني اعتدت ان تختاري انت الطعام و الشراب استنادا على قراءة بسيطة دقيقة لمزاجي، صدقي أني حاولت بالبرهان العلمي اقناع نفسي بأن تعتاد الحياة دونك:
قلت لها كان عمر إدراكي  حين التقيتك حوالي 11 سنوات إن افترضنا صحة نظرية "بياجي" بأن الطفل يبدأ الإدراك في سن الحادية عشرة، و لنفترض انه يشعر بميل للنساء بعمر 16، قبلها ما كنت أدري ما تعنيه النساء، حتى العلم، في السن الذي التقيتك فيه يدعي أني لست مؤهلا حينها للحديث عن الحب و النساء و  أشياء تعلق بالذاكرة و تؤصل للوجود و يدعي أن قبلنا كانت ارهاصات طائشة لا ندرك إيحاءاتها. المفاجأة أن ما اقتنعت به نفسي هو ان العلم لم يكن دقيقا في هذه النقاط، و اقتنعت بواقع التجربة، أجلس الآن و أنا أكمل السادسة و العشرين إلى مقعد خشبي عند الحد الأقصى من مدينة بسعة اسطنبول المنتشرة على قارتين ، أجلس انظر إلى ما يشبه ميناء صغيرا ترسوا فيه حوالي مائة باخرة  صغيرة في منطقة خلف الجسرين حتى منها لا يتراءى جسر الفاتح ، أجلس في عام 2013  على بعد ساعات من عام 2014 ، و أجد أنني في سنتين تشبعت منك لحد لا يمكنني تقدير انتهاء صلاحيته و لا إن كانت له أصلا، أجلس على هذا المقعد الخشبي في منطقة هادئة يبدو أن الجميع تركها، انصرف للاحتفال بالعالم الجديد و ليشهد لحظة الانتقال الزمني الفاصلة، ذهب الجميع حتى البحارون ذهبو ليتفرغوا لنسائهم و بيرتهم و احلامهم و اطفالهم الصغار و ليشهدوا تلك اللحظة الفلسفية التي نطلق فيها الأضواء ربما فرحا بنجاتنا من قبضة  الموت في عامنا الماضي، أجلس في مساء بارد جدا و ماطر جدا، لا شك ركاب تلك السيارات التي تمربوتيرة فاترة خلفي ، لا شك ينظرون إلي و يقولون ، مسكين يعانق بيرته بعيدا عن احتفالات العام الجديد لا يعبؤ للبرد و لا للمطر ، نعم أعيش حالة تجمد فظيعة، الزمن يتجمد هنا و أشياؤك تمطر بغزارة ، كل ما حولي في هذه الساعة من الساعات الأخيرة في آخر يوم من السنة ، أضواء و أشياء منعكسة على ارضية بللها المطر و كاميرا بأعمدتها تنتظر التقاط صور استثنائية في فترة زمنية استثنائية، و بعض المشاهد المثيرة من ماضي قد يبدو سحيقا لكنه يرفض التبدد، و وثائقي مثير أنت بطلته . أجلس هنا العطر نفس ماركة  العطر التي احببت ، و أنا استذكر خياراتك ، انظر للون جاكيتي فإذا به من ألوانك التي تقترحين دوما المعطف و الشال و حتى القبعة الصودفية هي الأخرى رمادية فاتحة شيئا ما، انظر مبتسما إلى حذائي فإذا به من ماركتك المفضلة ، أضحك من نفسي و انفخ بين يدي المتجمدتين و افركهما فركا لأولد حرارة تقيهما خطر التجمد حد التشظي  ، كل شيء يثبت أن ذلك لم يكن ارهاصات عاطفة مراهق ، لا أريد إثارة  انتباهك أو اهتمامك الآن فلا جدوى من ذلك حتى، لا أريد إثارة اهتمامك حين أخبرك أني بعدك عرفت و أعرف نساء من قارات الدنيا الخمس فتلك من ميزات المتسكعين أيضا، لكن لم يتركني حضورك أعطي لأي من هذه العلاقات أية هوية، تظل هنالك تكابد الانقراض و في أغلبها تعيش من دون هوية، لكن الحقيقة التي لا أعرف طعمها لحد الساعة هو أن أي رجل يحتاج لعلاقات ذات هوية يوما ما، و أنا استثنائي الوحيد أني عرفتك قبلهن معظمهن، لا زلت تاتين فجأة فتنتهكين خلوتنا و قهوتنا و مشيتنا و جلستنا و تنتهكين كل خصوصياتنا ، حتى أنك أحيانا تفاجئينا في غرف النوم و أسرة التسكع.
 الخبر الذي أتمنى أن لا يسرك هو أني عجزت لم استطع، والخبر الذي أتمنى انه لا يزعجك هو أنني سأحاول من جديد،لا لأنني كرهتك بل لأن الاعتراف بالهزيمة سمة حسنة ومن شيم الشجعان .

ما أدركه الآن هو أن أولئك الذين يدعون انهم يعرفون إيحاءات القبل كاذبون و الذين يختصرونها في كونها حالة إثارة سطحيون و أن الذي يفسرونها على أنها تجلي لحالة حب هم فلاسفة فاشلون، و الذين يريدون إقناعي أن قبلنا كانت فارغة هم انفسهم الفارغون، و أن النسيان ليست عملية سهلة و الإنتساب إليه يبقى في حالات كثيرة مختصرا في بطاقة انتساب تشبه إلى حد كبير بطاقات الإنتساب للأحزاب السياسية في بلداننا العربية، وأحاول باستحالة تفهم ممارسات غير قابلة للتفسير في مجتمع برزخي، لا تستحق روعة هذا المكان الذي أجلس فيه الآن و لا نقاء هذه اللحظة أن استدعيه فيها، لا تستحق أن استدعي القبيلة و اعرافها و المجتمع و تقاليده، و كل الأشياء التي دعتك لإعلان الهزيمة حتى قبل البداية، لن أعطي أبدا أي تفاصيل عن قصتنا حتى لهذه السفن الصامتة الراسية هنا و لا لهذه القطط التي تجول رغم برودة الطقس تبحث عن قطع طعام تعينها على قساوة الطقس، و لن أخبر عنها ذلك المتسول الجالس هناك يتدفى بأحد الحيوط و يتغطى بقطعة قماش سميكة، و الذي جائني منذ فترة يطلب فقط ليرتين حسب رأيه ليكمل ثمن زجاجة بيرة صغيرة. لا أحد إنها من الأشياء التي الصمت في حرمها جمال و من الحروف التي تموت حين تقال على رأي الراحل، يبرد الطقس و يزداد وقع ضرب قطرات مطرك و تزداد غزارة المطر، استمر بالنفخ بين يدي و تعديل الشال و القبعة بشكل لا يترك و لو فتحة صغيرة يمكن للبرد أن ينفذ منها، ألقي نظرة شاملة حولي و البنايات على المرتفعات هناك التي لا تبدو غير أضواء مبعثرة على مرتفع جبلي و غير بعيد هنالك يمكن أن تتراءى بقايا الجدار الذي كانت تحتمي به القسطنطينية من ضربات الفاتح، و الذي في النهاية اخترق، الفاتح رجل عرف دوما أن يدافع عن حبه، حين عشق المدينة آمن بعشقه و إيمانه هد حصنا بحجم ذلك الذي تتراءى أطرافه. المكان حيث أجلس و كأنه صمم لمعاقري البيرة  من بؤساء مدينة  لذوي الأسئلة العالقة و لربما متسكعي المدن الكبيرة من عشاق أرصفة التمشي بصمت. ساعتان بالضبط و يذهب العام 2013 بكل أشيائه تماما كما ذهب 2012 و الذي قبله، ما لا أفهمه لماذا تذهب هذه الاعوام بكل أشيائها و لا تأخذ معها شيئا من أشيائك في ذاكرتي. اعتذرت إلى أشخاص ملؤوا فراغات السنين الماضية وفاء لما لا أعرفه أًصلا، ام لربما خيانة لعهدي لنفسي بأن اعتاد غيابك، اعتذرت منهم و اخترت أن أسلم نفسي لباص يخترق بي كل المدينة لحط بي في أقصى نقطة منها، و يسلمني لمقعد خشبي غير بعيد من بيت متسول أقامه على قدر رجل بيرة بائس على رصيف جنب ميناء يبدو نهاره نشيط و مكتظ  كما تشي بذلك كمية السفن المرابطة هنا. ربما أردت أن أجرب شعوري بالهزيمة ثانية هنا بعيدا عن الجميع، يبدو الأمر غباء وجنونا، لكنني مؤمن بفلسفة جوبس بخصوص المجانين. هل تكون قمة السطحية و الاختلال العقلي حين أبوح لك هنا بسر، لن أقول لك شيئا عن رجل تعرفين مستوى منسوب الجنون و عشق النساء، و لربما أنت قادرة على التخمين بخصوصه ما قد تفعله أرصفة و أسرة التسكع العابرة به، ما أريد أن أخبرك بك سر فقط بيننا، قد تخمني كم امرأة التقيت بعد في سنين ستة من شوارع و ملاهي و مقاهي و مطارات و قاعات الانتظار و أسفار الباصات الطويلة ، قد تخمني كم التقيت من امرأة، قد تخمني رصيد الخبرة التي تراكمت، لكن حاولي التخمين كيف بعدك تغيرت و تعمقت و تشعبت فلسفتي في النساء، الشيء الذي لا يمكنك تخمينه إطلاقا و ليس لديه عنه أي فكرة هو مرة منعني حضورك من لفظ تلك الكلمة و هي تستقر عند الحلقوم، لم أعرف يوما أن أقولها لأي امرأة و أنا أقرأ في عينيها انتظارها بحرقة، ظلمت كثيرا من النساء يا سيدتي، و فرضت على كثيرات التأقلم مع وضع قائل بأن تلك كلمة محرمة ربما لا يجوز حتى الآن أن تقال لغيرك، حتى حين أجاهد نفسي و أقنعها أجدني أخلق ذلك السياق الهزلي لأرميها على عجل في قالب ساخر يسد حاجة سيدة تجتاحها انفاس الانتظار الجارف، و ليس لها أي ذنب تحرم فيه كلمة استحقتها بكل المعطيات، لكن مع ذلك لم استطع بعدك أن أقولها مشبعة بكل معانيها. صادفت نساء حلمت دوما نظريا بلقائهم تقاسمنا كل مصطلحات القواميس و سلوكيات المتحابين، إلا أني لم أعن تلك الكلمة يوما و أنا أخبرهن بها، لكن ربما كان افضل ما تعلمته الصدق ، كنت في كل مرة أعطيها ايحاءات تفهم بها سياق علاقة أنا لا أفهم أصلا سياقها و لا أعرف حتى هويتها.  لا يمكنني ان اكون غبيا حتى احملك مسؤولية تواجدك معي حيثما حللت، لكن لن أكون حكيما لأفهم كل ما يحصل دون أن تكون لك فيه يد. تعرفين السبب أني حتى الآن لا تزال تسكن مع حضورك هنا قناعة بأني لا زلت هناك بين أشيائي و أن الأمر مجرد مساحة بيضاء من الاشياء تتطهر فيها اشياء مجتمعنا من الدنس، بكل صراحة لقد انهزمنا معا، أنا لا أحب المبرارات التي يصوغها العائدون من ميدان الهزيمة ، أفضل ما يقال بعد الهزيمة الاعتراف بها، ثم اعلان التهيؤ لبداية جديدة، اعترفنا و لربما تحضرنا البداية الجديدة........ "يتواصل"