Saturday, August 16, 2014

اردوغان يربح تاسع انتخابات في ثلاثة عشر عام... و هذه المرة رئيسا...

 عبدالله أحمدمحمود – كاتب
@abdellahiAM

تابعت مساء أمس فقرة تحليلية  على احدى القنوات الغربية حول الانتخابات التي كانت تجري في تركيا، سأل الصحفي : عرفت تركيا مؤخرا تضييقات على الحريات العامة و انفجرت في فضيحة فساد طالت وزراء و مقربين من رئيس الوزراء و كانت حادثة المنجم التي قضى فيها عدد كبير و إشكالية الديمقراطية مع كل ذلك هل ترى أن حظوظ الرجل لا زالت قائمة. كان رد مراسل القناة الاقتصادي : الرجل يعمل على مشاريع تنموية مجنونة في هذا البلد و لا بد أن نتذكر كيف قفز الليرة في عهده بشكل مخيف، و بدأ يتحدث عن مسروع المطار الجديد في المدينة و قال في لغة استرسالية، اسطنبول الان مدينة تسير بسرعة خاطفة مشاريع متروهات الانفاق و المطارات و
المعمار و ختم بالحديث عن استراتيجية عام 2023 التي من ضمن اهدافها ان تكون تركيا ضمن أعشر أقوى اقتصادات عالمية. ما لاحظته أن المراسل لم ينشغل بشيء مما تحدث عن الصحفي في سؤاله، لا عن الديمقراطية و لا الحكم الشمولي كما يقول البعض و لا الديكتاتورية و تضييق الحريات و الفساد... تجاوز كل ذلك ليتحدث في وقائع على أرض الواقع. خاض الرجل انتخابات رئاسية هي الأولى من نوعها يتم فيها انتخاب الرئيس باقتراع مباشر يدلي فيه كل مواطن بصوته.. و ربح.
ربما تحدث الكثيرون عن حصيلة الرجل و حزبه خلال الثلاثة عشر سنة الأخيرة و شهد الأعداء قبل الأصدقاء، من الأرقام الاقتصادية و أرقام النمو، مضاعفة الانتاجية و جلب الاستثمارات و انهاء الصراع مع الأكراد و احتواء الأقليات، ثم في نهاية عهدته الماضية أعلنت حكومة أردوغان عن استراتيجية 2023 التي بموجبها يريدون العمل على صعد مختلفة اقتصادية و تنموية لجعل تركيا ضمن قائمة عشر أكبر اقتصادات في العالم، الآن في اسطنبول رجالات يصلون الليل بالنهار تحت الأرض يعملون على شبكة من قطارات الانفاق ستصل كل أطراف تلك المدينة الشاسعة من أقصاها لأقصاها، كان عنوان هذا المشروع  و شعاره، من كل مكان و إلى كل مكان مترو.

المعارضة التركية ... خطاب ايديولوجي يائس

الجانب السياسي التركي معقد جدا بقدر ماهو بسيط، الصراع محتدم دائما بين قطبين القطب العلماني   ممثلا في حزب الجبهة الشعبية CHP و القطب المحسوب على التيار الإسلامي أو المحافظ و هو "حزب العدالة و التنمية AKP   و فيها حزبان آخران يؤثران في المعطى مع بعض الأحزاب طبعا هما حزب القوميين MHP  ، و هنالك BDP  حزب السلام و الديمقراطية الممثل للأكراد و الذي يقوده صلاح الدين دمرداش  مرشح الرئاسيات لعام 2014. الإطار الوحيد الذي يمكن أن تقرأ فيه تمكن حزب واحد من السلطة في بلد بحجم و مستوى تركيا هو ضعف الخطاب السياسي المعارض، و هو أمر ملاحظ و بعض رجالات المعارضة التركية حتى يتذمرون منه. المعارضة التركية تمتلك هوية ايديولوجية لكن تعدم ما يمكن تسميته الهوية الاستراتيجية و التنموية، لذلك حراكها يقتصر على ترداد شعارات لا يزيد الشعبية بقدر ما ينقصها أحيانا، خاصة حين ينحو الخطاب منحى اقصائيا على أساس فكري أو عقدي في مجتمع منقسم على نصفين و منقسم على نفسه ايديولوجيا. إن الحقيقة هي ان الساسة الأتراك فشلوا في ردم الهوة الشاسعة بين مجتع المحافظين و مجتمع العلمانيين، و لعل التحدي التنموي الأبرز الذي تواجهه تركيا اليوم يكمن في هذا الشرخ، الذي ادى لمعارضة عمياء ، فما يأتي من ذاك ولو جنة لا نريده و ما يأتي من ذاك و لو تركيا أقوى اقتصاد عالمي لا نريده. و مرد الفشل لعب بعض الساسة على هذا الوتر. إن السياسة و الساسة ينجحون حين تكون خلافاتهم على أساس الإستراتيجيات و البرامج الاقتصادية و الانجازات و قوانين التأمين الصحي و قوانين التقاعد و الأسعار و و و و ، لكن حين تقتصر المعارضة على جانب أيديولوجي صرف هو ما يؤدي بالخطاب السياسي أن يصل مرحلة ما لحالة يأس تنحو به منحى اقصائيا متشددا يعمق الشرخ الاجتماعي، و أظن هذا هو الفخ الذي تسقط فيه المعارضة التركية، فالمعارض لا يعارض على أساس الاستراتيجية و الخطة بقدر ما يحاكم على أساس الانتماء العقدي أو الفكري، و هذه أمور في جوانب كبيرة منها تتعلق باختيار الشعب. لا يختلف اثنان على حقيقة أن المعارضة التركي وصلت في بعض مراحلها لحالة يأس مطلق، عكستها خطابات بعض قادتها في فترة معينة. حين ننظر للوضع السياسي الأمريكي نجد حزبين برؤيتين استراتيجيتين مختلفتين ، يقد كل رؤيته بخصوص الموازنة بخصوص قانون التأمين الصحي بخصوص قانون لمكافحة الهجرة بخصوص مشروع كذا و قانون كذا و الحزبان يتسايران ويتنافسان بشكل دقيق تحكم معطياته أبسط التغييرات في الجداول و الاستراتيجيات، هل يجوز لنا أن نقول مثلا أن ذلك مستوى من النضج الديمقراطي أو المدني تركيا لم تصله بعد، لنفترض إذن ولو جدلا ، و نتحدث عن نموذج ديمقراطي تركي متزن، هذا النموذج لم يتشكل بعد و فشله في جانب كبير منه تتحمله المعارضة التركية. إن الإشكالية إن المعارضة التركية تختصر معارضتها و أهداف معارضتها و غايتها و كل شيء في أن حزب العدالة هو حزب يريد تحويل البلد إلى بلد اسلامي و يريد تحريم الخمر و تحريم السهر و يريد أن يجعلنا نعيش نموذجا إسلاميا بائسا و غيره ذلك هنا تتمحور كل استراتيجيات و خطط المعارضة التركية. و هنا نجح حزب العدالة و التنمية في إقناع الغرباء و الاجانب قبل الأتراك أنفسهم فيقول لك مثلا سائح غربي: انا سمعت أن الخناق مضيق و شرب الخمر قيد المنع لكن الخمر يستخدم هنا بطريقة لا يستخدم بها حتى في كثير من بلدان الغرب. الموازنة هنا و سبب إفلاس جيب المعارضة يمكن تفسيره من هذا الجانب، فأردوغان بالطبع له أجندته التي لربما من ضمنها تحريم الخمر أو تحويل تركيا لدولة إسلامية، ربما لكن انطلاقا من واقع تركيا، فهي دولة تعج بكل انماط الحياة غربيا كان و شرقيا، و حين تنظر بعمق تجد الفرق الوحيد بين تركيا الآن و تركيا قبل من هذه الناحية هو أنه في تركيا الآن حين تقرر فتاة ارتداء الحجاب يمكنها ذلك و الذهاب إلى الجامعة تماما كما من حق أي واحدة أن ترتدي ملابس "البيكيني" و كما من حق مثلي أو مثلية أن يتجول هو و حبيته أو حبيبه في شارع الاستقلال. إن المساواة و الحرية و الديمقراطية في مفاهيمها الحقيقة لا تقبل ازدواجية المعايير. هذا الخطاب السياسي انتج جيلا شابا معارضا ، تقول لأحدهم فيه: الخطوط التركية الآن تمت تسميتها الأولى في أروبا و تقول له مثلا نسبة النمو الاقتصادي في تركيا ضمن الاعلى عالميا. يرد عليك : نعم لكن أنا أكره هذه الحكومة. إن زراعة هذا الكره غير المبرر تضر بالمجتمع التركي و تركيا قبل ان تضر بأردوغان و حزبه. و نتاجها أن الرجل خلق قاعدة شعبية لا تتغير فالأحداث كلها تتسارع و تمر لكن شعبية الرجل ثابتة لأنها يستقر على أرض صلبة دعائمها انجازات شاهدة على قفزة نوعية حققتها تركية خلال حقبته.

اردوغان ... الديكتاتور

في الفترة الاخيرة من حقبته الماضية كانت تقرأ حدة في خطابات الرجل و لغته. و بدا الجميع يتحدث عن تبلور وجهة ديكتاتورية في عقل الرجل يحضر لانتهاجها. و جاء المصطلح شماعة تعلق عليها المعارضة كل إفلاساتها. فصار الجواب السهل: لماذا تعارض اردوغان؟ لن يقول لك أي كان: الأسعار ارتفعت. المعيشة غالية. الأتراك في الخارج يعانون التقصير . الناس تعاني داخل البلد. لا باختصار و بكل ثقة يقول له: إنه ديكتاتور. الرد الذي يليق بجواب من هذا القبيل هو لربما رد صديقي الافريقي ذلك اليوم حين كنا نحاول ان نتبين طريقنا إلى محطة الميترو، و رأينا المتظاهرين يكسرون واجهات المحلات و البنوك و الشرطة تقف في الجانب الآخر و تحاول ثنيهم بكل طرق متاحة، فقال لي: و يتحدثون عن الديكتاتورية اطلب إليهم أن ياتوا إلى مظاهرة واحدة في افريقيا سيعرفون معنى الديكتاتورية هؤلاء فقط سمعوا المصطلح. لا يبرر بأي شكل من الأشكال الاعتداء على المتظاهرين و التظاهر السلمي حق يكفله القانون والدستور، لكن أن تتحول المدينة بعد كل مظاهرة إلى ركام و حطام زجاجات المحلات محطمة و حوالات البنوك معطلة فهنالك أمر خطأ و مهمة الشرطة أن تحمي ممتلكات الشعب و امنه، بكل طرق سلمية متاحة.
كان من السهل في تلك الفترة التي صعد فيها رئيس الورزاء التركي خطابه و التي واكبت خلافه مع فتح الله غولان كان من السهل أن تقرأ في اتجاه عنجهية و ديكتاتورية من نوع و لربما قصدها الرجل لتوجيه رسائل قوية في حين كانت الحالة فيه تغلي و لربما تتطلب خطابات من ذلك النوع. لربما أيضا شعور الرجل بعجز المعارضة و ثقته من قاعدته الشعبية كان مرد ذلك، لكن أن تتلقف المعارضة ذلك بتلك السهولة و تجعل منه شماعة فهو تعبير آخر عن حالة الإفلاس.
لكن ظهر قسم حتى من مؤيدي الرجل و من الذين يشغلهم كثيرا ردم الهوة بين شقي المجتمع العلماني و المحافظ، ظهر ، كانوا ضد خطاب الرجل التصعيدي و الذي يرون فيه فقط خطوة تعمق ذلك الشرخ الاجتماعي. رأى البعض في ذلك الخطاب توجه من اردوغان و حزبه لمنحى الاقصائية الذي اعتمدته و تعتمده المعارضة طويلا، و لربما لذلك و بعد الانتخابات البلدية حاول أردوغان في كل خطاباته أن يؤكد أنه رئيس الكل و بعد اعلان النتائج الاخيرة أكد انه رئيس 77 مليون تركي في إشارة إلى تركيا جميعا. لغة اردوغان القوية جعلت بعض أنصاره يفكرون ما يعطي فكرة بأن أكبر مؤيد لأردوغان بعد انجازات تحققت في عهده هو ضعف خطاب المعارضة الغير موجه و الغير معقلن ليحتوي المجتمع التركي ككل مركزا على تفرقة ايديولوجية ليست في صالحه، فحين نعتبر التفرقة الايديولوجية فهنالك حقيقة رقمية احصائية تقول بأن المحافظين في تركيا تزيد نسبتهم على 50 بالمائة فبدون ادماجهم و احتوائهم يستحيل إذن أن تكسب المعارضة التركية أي صراع انتخابي. بعض أنصار اردوغان ترددوا في التصويت له في الانتخابات الأخيرة، لكن لم يجدوا بديلا عنه، فكان من المثير للإنتباه أن يقول بعضهم أنا لن أصوت في الشوط الاول، أما إذا ما ذهبوا للشوط الثاني فبالطبع سأعطي صوتي لأردوغان، هؤلاء يقولون بأن عدم تصويتهم ليس عدم رضى عن اردوغان و سياساته بل فقط رغبة منهم في أن يتولى شخص أقل منه حدة السلطة، لكن يعود جانب منهم يؤكد أن تلك الحدة ربما مطلوبة في ظروف معينة و لربما تدخل في كاريزما الرجل السياسية التي تلعب دورا كبيرا في كسب ثقة المواطن و تصويته.


غولان و اردوغان ... و صفعة مارس

ظهر الخلاف جليا بين فتح الله غولان و رجب طيب اردوغان و قد كانا حليفا الأمس، فجأة من منفاه الاختياري في بنسلفانيا  و بعد أن كان يدعوا الله مبتهلا : اللهم انصره .. قلب الدعوة : و صارت اللهم اهزمه . و فتح اردوغان النار على فتح الله غولان مطلقا عليه و على أتباعه إسم " الدولة الموازية" كان خطوة جرئية من الرجل ان يطلق النار بذلك الشكل على رجل يتبعه عدد كبير ممن منحوا أصواتهم دوما لأردوغان بتزكية من غولان. نعم انفلق فيلق لابأس به من المؤمنين بالرجل و تركوا اردوغان و بدأوا يصفونه بأنه رجل متعنت و يؤسس لديكتاتورية من نوع ما. و لم تجد بنسلفانيا بدا من التحالف مع المعارضة لكنها احتفظت دوما بشعرة مع رجل تعرف قدر صرامته و المدى الذي قد يصله.
أطلق اردوغان قانون : "الدرسهان" القاضي بإغلاق الكثير من المدارس الخاصة و المؤسسات التابعة في معظمها لفتح الله غولان، و الذي يمتلك كميات هائلة منها تعود عليها بمليارات الدولارات سنويا، قالت اردوغان و حكومته ان ما توفره تلك المدراس و المؤسسات يمكن للدولة التركية أن توفره لأبنائها و ما توفره تلك المدارس للأساتذة من فرص عمل فإن الدولة بإمكانها توفيره و لم يشر أثناء طرح  هذا الاصلاح في المجال التعليمي إلى الدولة الموازية كما يسميها ، مع أن الدرسهانه تعتبر واحدة من أبرز وسائلها لإفشاء رسالتها و زيادة أتباعها، و ما يدور الحديث حوله في الشارع التركي هو أن السيد فتح الله غولان هو رجل عرف كيف يبني امبراطوريته بكل أتباعها، فانتهج نهجا متوازيا متوازنا لجلب أكبر كم من الشباب التركي المائل للمحافظة، فمن خلال فتاويه كان سهلا جدا لينا متساهلا وفوق ذلك وفر مدارسه لتعلم مجانا كما وفر أمواله لرعاية الكثيرين فوجه البعض للجامعات ليكونوا دكاترة ومهندسين ووجه البعض للشرطة و الجيش ما خلق قاعدة من الولاء له في جوانب مختلفة من الدولة، و كان فوق ذلك يوفر المساعدة المالية و السكن المجاني، كان إعلان أردوغان إغلاق تلك المدارس و المؤسسات القشة التي قصمت ظهر بعير الرجل. فاعلن مقاطعة و شن حربا هوجاء أرادها مرة سياسية و ارادها مرة مقدسة إلهية ثم انتهت لربما بقضية فضيحة التسجيلات الصوتية التي حمل اردوغان ما يسميه الدولة الموازية بأذرعها في المخابرات و الجهات الأمنية حملها مسؤولية فبركتها. لكن خرج اردوغان و خرج الرأي العام التركي دون تغيير يذكر بعد أن استمتع لمدة اسابيع بالاستماع إلى المكالمات و الضحك حتى الأذنين.  تلك المرحلة كان حتى المؤمنون باردوغان يعيشون حالة وجل و ترقب، لكن حين سأل اردوغان كيف يقدم على تلك الخطوة و هو قادم على انتخابات بلدية قد تكون الاهم في مسيرة حزبه و تأتي في فترة شحنت بالكثير من الأحداث المقلقة و التوترات، رد في ثقة: أن السياسة تتطلب احيانا المخاطرة. كان الرجل يعتمد على قاعدة شعبية حتى و إن لم ترد و لم ترد سياساته فهي لم تجد بديلا عنه في ظل معارضة تسومها و خياراتها الايديولوجية سوء الخطاب ليل نهار. كان الجميع يستعرض كل تلك الأحداث التي عاشتها تركيا مؤخرا ، كان التعليق الوحيد المنطقي حينها: إن لم تربح المعارضة هذه الانتخابات فعليها ان تسلم و سوف لن تربح أي انتخابات اخرى ما لم تراجع أسس و قواعد سياساتها و خطاباتها. جاءت  الانتخابات و شمر الرجل على ساعديه راحلا شمالا و جنوبا تركيا يقدم مشاريعه و استراتيجياته و يبرر من احداث "غيزي بارك" لحادثة التسجيلات الصوتية و الفساد لحادثة الحد من انتشار الخمور انتهاء بالحديث عن الديكتاتورية و الحكم الشمولي. جاءت الانتخابات و فاز الرجل و حزبه بها في شوطها الأول في صفعة جاءت بشهر مارس أخرست الأصوات القادمة من وراء البحار.

أردوغان و العرب
للأسف حين تتحدث عن العرب، تتحدث إجمالا عن وجهة النظر الغربية أو أقل من ذلك وجهة نظر الإعلام الغربي، فحتى أحيانا القادة الغربيون لا يتعبون أنفسهم بشرح تلك وجهة النظر و يتركوا للقادة العرب استنتاجها من اعلامهم الموجه. قبل الربيع العربي كانت الديكتاتوريات العربية تغني اغنية موحدة واحدة : هي تركيا و الطموح العثماني و العثمانيون الجدد، و يتحدثون عن اطماع اردوغان التوسعية كما سموها، كان آل سعود و آل زايد و حتى في مرحلة ما آل حمد إضافة لمبارك و قومه كان الجميع يرقص على هذه الاغنية بحماسة، فيما كانوا يتهادون بجلابيبهم و بطونهم المنتفخة من خليج العرب إلى محيط الاطلس فيما كان اردوغان يدشن الجسر الثالث في اسطنبول أو يفتتح خط المتروهات الجديد أو يلعب كرة القدم مع بعض اصدقائه القدماء. كنت تنظر لانجازات حكومة اردوغان في سنة لا يمكن ان تقارنها مع انجازات 10 حكام عرب طيلة عقد من الزمن، وجه اسطنبول و ملامحها كمدينة عصرية يتغير بين ليلة و ضحاها فيما وجوه مدننا العربية شاحبة باهتة لا تتغير وو جوه قادتنا العرب تنتفخ و تزداد نسبة الدسومة و الدهون فيها، لم يعر الرجل رجالات العرب اولئك كثير اهتمام فيما كان يصرخ في وجه بيريز كان أمين جامعة العرب يشبك يديه في ارتجاف و يرتعد واقفا يحيي اعتراض الرجل. لم يصرخ عربي و لم يحمحم حتى و لم يهمهم. جاء الربيع العربي و اجتاحت رياح حكام معظم العرب و عروشهم فيما ارتعدت فرائص و عروش الكثيرين فخلقت موجات الخوف ردات فعلية متفاوتة.  أثناء موجات الربيع العربي وقفت تركيا مع الهبات العربية من أقصى بلاد العرب لأقصاها، لكن ما إن استحال ذلك الربيع إلى صيف قاحل تؤيد فيه مصر بقيادتها الجديدة ضرب غزة و يطبل فيه بعض الناعقين و الناعقين من المحسوبين سهوا على الإعلام يطبلون لنتنياهو ويغنون له : " و نشد على أياديكم" اختطف ربيع العرب و صاروا يتغنون بعدل بن علي و مبارك. لكن لا زالت تركيا ترعى أمل التغيير و الامل القائل بأن ليالي الميادين و أيامها القاسية لن تذهب هدرا. تنظر الميادين الآن إلى تركيا كمخلص، لكن حكام العرب و قادتهم ينظرون إليه كشيطان أكبر، فيما علاقة تركيا الآن بتونس مثلا و بقطر تعتبر بأحسن حال، إلا أن العرب في ظل الوضع الحالي تائهون لا يعرفون الصديق من العدو و لا القريب من البعيد، فمادامت مصر تصقق لتدمير قصة لاشك أن العقل العربي غير مؤهل الآن للحكم و لا للتمييز فهو يعيش حالة مرضية. تركيا الآن تحتضن المقاومة و تدافع عن خياراتها فيما ترفض بقوة و بصراحة ما تسميه انقلاب السيسي.
الوطن و خدمته بالدوام (دايما ملت، دايما حزمت)

كان ذلك شعار الانتخابات البلدية و كان أيضا شعار الرئاسيات، و أثبتت الصناديق أن التدخلات الخارجية و توجيه الإعلام لا تلعب دوار مادام قاعدة ما ملتفة حول قائد آمنت به و لم يخذلها. فحين يتحدث يقنع و حين يعدها يفي بوعده. الشعوب لا تحتاج أكثر من قائد يعد فيفي. و الدول و تقدمها لا يحتاج ديمقراطية و شعارات هلامية بقدر ما يحتاج افتتاح مشروع أو وضع استراتيجية. فالعالم الثالث و هو وحده المشغول بهلامية هذه المصطلحات فيما الدول و الأمم التي انتفضت و خرجت من تلك العباءة التي اكتشفت أنها رداء للحد من حركتها هي التي تتقدم و تنجز من لا تين امريكا إلى عثمانيي اسيا و أوروبا. حين بدأ  الإعلام الغربي أثناء أيام "الغزي بارك" يدندن و يريد تصوير اردوغان و الشرطة كأكثر شرطة وحشية في العالم ، دعاهم حينها لينظروا إلى ما تفعله شرطة المانيا و شرطة اسبانيا و ما يحصل في اليونان، حين ركبوا موجة التسجيلات، ترك للعاصفة ان تمر في هواء البروباجندة و ذهب لتدشين " خط المترو الذي يعبر من جانب المدينة الأوروبي لجانبها الأسيوي تحت البحر. حين أتت ميركل تحاول لعب دور الاستاذة لتعلمه حقوق الحريات، تسائل أمامها عن ما تريد أن تدرسه أياه و قال أن تركيا لا تحتاج الدروس من أحد. يقول لي عامل نظافة عاصر عهد اردوغان حين كان على رأس مدينة اسطنبول، يقول لي ممازحا، قبل اردوغان كان رؤساؤنا يجلسون أمام الرئيسا الأمريكي منحنيين ينظرون إلى الأرض أما أردوغان فيجلس أمامه و قدمه على ركبته و يقول له: "تركيه جمهوريت" باللغة التركية.  ذلك حديث رجل بسيط يقول أن مع كل تقدم تركيا فهو لا يزال يعوزه سعر قنينة البيرة التركية الرخيصة. حين تخدم الوطن يؤمن بك الوطن و حين يؤمن بك الوطن لا يضيرك كفر الكثيرين بك، لكن الحقيقة أن اردوغان في حقبته الجديد يجب أن يبحث طريقة لتخفيف تلك الهوة السحيقة التي تشكل عائقا حقيقا في وجه سهم تركي يخترق نحو الأعلى بشكل يستحق الإشادة. إن ما فهمه حزب العدالة التركي وغائب عن كثير من احزابنا العربية البائسة الديني منها و العلماني و غيره، هو ان السياسة و الإيديولوجية لعبة لها قواعدها و ضوابطها، و لا بد ان تعرف كيف تلعبها بإتقان و إلا ستلقي
بك في سلة يرمي فيها الغرب نفاياته و يعيد تدويرها كل مرة، كما يحصل مع القادة العرب.  

لماذا عشرية اردوغان تشكل نموذجا

كل من هب و دب الآن خاصة ممن يتبنون فكرا محافظا أو إسلاميا بين قوسين في عالنا العربي  يقولون : سنعمل على نموذج تركي و لكأن لعنتهم حتى لاحقت النموذج التركي ، كما يقول ساخر عربي: أن التيارات الاسلامية العربية ظلت تردد النموذج التركي ، حتى كاد يسقط إبان مظاهرات تاكسيم و ما لحقها. إن النموذج التركي نتاج عقود صامتة من العمل ثم عقد صارخ بالعطاء. فإبان العقود الصامتة عرف الحزب وقادته كيف يديرون الكفه و امتصوا المرحلة بمتطلباتها و عملوا بصمت. ثم بعد لم يقف منه أي على المنابر يتبجح بإسلامه و يقول لا تلميحا و لا تصريحا أن الله أهداه هو وحده إلا الطريق السوي و البقية ضالة مضلة كما يفعل بعض قادة التيارات عندنا. من جديد بعيدا عن الأرقام الإقتصادية فإن اردوغان كان يحفر تحت الأرض ليبني الطرق فيما تياراتنا يصرخون فوق الأرض هراء.كان يعامل الاعلام الغربي بالاسقاطات على واقع الغرب، و بدت كثير من اوراقه اجندته مكشوفة أمام واقع يقول بعكس ما يروج له هذا الإعلام. دخل اللعبة الدولية مواقف ثابتة مع رتوش تمليها ضرورة الموازنات الإقليمية، كان يدافع عن مصالح تركيا في حين دول العرب تنتظر من يتبناها و يدافع عن مواقفها المتردده المائعة الغير موجودة أصلا، و حين لم يفعل قالوا العثمانيون الجدد. لا يعني ما يحصل أن هزات لم تضرب كيان الحزب و قائده، لكن كان الحزب كل مرة يعود أقوى ، و هنالك ترسانة اعلامية و درامية أيضا تصارع بقوة في الساحة الاعلامية التركية و تحمل فكر الحزب و همه وقادرة على خلق توازن من نوع ما. لكن الحقيقة القائمة. طيلة هذه الفترة كان الشرخ الاجتماعي يتعمق، كان التوتر يصعد و يهبط لكن شعبية الرجل كانت ثابتة لأنها قائمة على أرقام اقتصادية أكثر من خطابات سياسية.

التحدي الأبرز

من ناحية الاستراتيجيات و الخطط الاقتصادية يبدو اردوغان في وضعية مريحة أمام برنامج معد حتى عام 2023 التي تصادف مرور مائة عام على الجمهورية الحديثة الناشئة مع أتاترك، لكن التحدي الأبرز سيكون طريقة يردم بها تلك الهوة السحيقة بين شقي المجتمع المحافظ و العلماني و طريقة لإستيعاب المعارضة. خاصة أنها ربت جيلا يكره الرجل لذاته ليس لسياساته، جيلا يغلق التلفزيون حين يخطب اردوغان. ربما الرغبة وحدها في ردم هذه الهوة لا تكفي ، بل لا بد من خطط و استراتيجيات استيعابية. فلا شك كلما ضاقت هذه الهوة فهي في صالح تركيا و مستقبلها، و بعيدا عن التجاذبات السياسية فالانسان التركي هو انسان منغرس في وطنه ومنغرس فيه وطنه بكل مقدساته بشكل عميق، ما قد يشكل نقطة بارزة يمكن اللعب عليها لتوحيد الشعب على شيء على الأقل.

اما المعارضة التركية ففي وضعها الحالي لا تشكل تحديا سياسيا بقدر ما تشكل تحديا فوضويا من خلال المظاهرات و الخرجات العبثية التي تعطل دائما حركة الدولة و استراتيجيات الحكومة و مردها غياب معارضة تستقطب هذه الحراكات و تنظمها، فالمعارضة التركية إذا ما أرادت أن تبدأ معركة جديدة آملة أن تكسب الحرب يوما ما فيجب أن تنطلق من الداخل و تشتغل على تغييرات جذرية بنيوية تضع أبعادا كثيرا في السياسة و المجتمع التركي في حسبانها. و ما لم تعمل على ذلك هي حراكات هائمة على وجهها في خبر كان سياسيا. هل يكون اردوغان عند ذلك التحدي الذي يبدو اجتماعيا أكثر منه سياسيا؟  و هل الخطاب التصالحي الذي القاه على إثر إعلانه فائزا مبدئيا بالانتخابات يكفي. و هل تلك السبعة و السبعين مليون التي صرح أنه رئيس لها الآن ستقبله أو على الأقل تقبل قواعد اللعبة الديمقراطية؟ أم اننا على موعد مع أيام طويلة في شارع الاستقلال و ساحات تاكسيم و غيزي بارك، إن المواطن التركي عليه أن يعي أهمية أن يلعب اللعبة السياسية بشكل معقلن و منطقي لا يعرقل حركة عجلة تتسارع في الاتجاه الصحيح بل يكون دفعا لها.