صدقوني لا شيء أحلى و لا أغلى من أن نلتقي أولئك الذين
رماهم قدر في طريقنا و رمانا قدر في طريقهم فاكتشفناهم و عرفناهم و سكنوا ذاكراتنا
و رحلت أٍسماؤهم و أوجههم و عطرهم و صوتهم في حقائبنا، و ارتسمت حركاتهم و سكناتهم
على جدران وهمية نحدق فيها على هدى و على غيره. لا شيء أجمل من نجلس إليهم نشاطرهم
البسمة و الكأس و الصمته و نترك لرياح نواكشوط المحملة بنا و بذواتنا و هوايتنا
نترك لها أن تجتاح أوراق عواطفنا المبعثرة على طاولة خشبية رمى بها أجنبي على عجل
في مقهى أو مطعم ألقاه على رصيف طريق تغطيه الأتربة.
لا شيء أجمل من أن نلقى كل الرائعين الذين أحبتني
العناية الالهية بما فيه الكفاية لترشدني إليهم و ترشدهم إلي. أن نلتقي أوليك
اللاتي قررن ذات مساء بعثرة أوراق عاطفية مزقتها القبيلة البائسة و وطن المشاعر
المنتظر حد اليبس و التشظي ، ألئك اللاتي قررن أن ترسلن لك بسمة عابرة للقارات و
دمعة عابرة للحدود لأنهن وجدن فينا منديلا شاردا يحسن مسح الدمعة و قلبا بسعة
المتاهة يحسن مقاسمة البسمة.
لكن الحسابات وحدها هي التي تهزم عواطف الاحلام و أحلام
العواطف، و الزمن هو وحده الذي ينثر العواطف عليه فاصلة و احداثية كمعلم ديكارتي
دقيق. حلقت بي طائرة ذات زوال اسطنبولي تغالب شمس غيما يوحي بمطر ، رمتني الطائرة
في احضان درة المتوسط لأخذ لنفسي جولة مقتطفة من كل الجداول المغلقة فاشرب قهوة في
مقهى يطل على بحيرة تونس و الصق عقدا فضيا تتوسطه حبة خرز اسطنبولية بجيد فتاة
سحرتني طلته ذات مساء بارد موغل في البرد و الشقرة. ثم تعانق عيني بسمتها بشغف
المسافة و عبق الازقة العريقة. منها إلى نواكشوط حيث البداية و النهاية و المنقلب
و حيث نبتلغ غبار شوارعنا و نستنشقه و كأنه رائحة التوليب في وسط نيسان، حيث أم و
أب و اخ و اخوات و عائلة جميلة تسكنني و يسكنني حبها انتظروني لعامين كنت خلالها
أتسكع في سيول و ازقة بانكوك و أٌتأمل جادة الشانزليزيه و نافورة جنيف و جدران
تورين و عمارات برلين و معطيات اديس ابابا الموغلة في افريقيتها، عائلة هي الوطن و
السكن .
اريد أن ارى كل واحد رغب ذات لحظة شاردة في أن يبادلني
حديثا و بسمة و هما كل واحدة ارادت يوما ان تضحك دون رقيب و ان تجرب الكفر
بالقبيلة و اعرافها و المجتمع و قواعده الدنيئة ، كل واحدة حلمت بان تركض بحرية و
تصرخ بحرية و تغني لطيور اركين المهاجرة منه و إليه و تبوح لامواج الاطلسي الغاضبة
بكل ما يختلج بداخلها، اردت ان التقي اصدقاء الطفولة و أيام دار النعيم المجيدة،
أصدقاء كرة القدم و الأقدام العارية في ساحات المطار الواسعة، أيام الجامعة
الصامتة الهائمة الحائرة الحزينة الجميلة بكل شحوبتها أيام الحب الطفولي و الاحلام
الطفولية بوطن و حبيبة جميلة و خطى مطمإنة على حافة الوطن، قبل أن نكتشف أن الوطن كعكة يتقاسمها أقوياء القبيلة البؤساء و قبل أن
نكتشف أن الوطن نهش لأشباه المثقفين و أشباه السياسيين و أشباه الرجال . قبل أن
نكتشف أنه يستحيل أن نحب و أن نمشي مطمإنين و أن نجلس مطمإنين بل و أن نعيش.
صدقوني أريد أن ألقاكم جميعا فردا فردا و لا أريد أن أدمر لحظة قد تسنح لي بلقائكم كما
دمر أحدهم أشياء أحدهم دبابة دبابة.
لكن الزمن يأبى إلا أن يكون الفيصل و الحاكم الغير آبه
بالعدل من قلته، هو فقط يقرر البداية و يقرر النهاية و يتحكم في المسار الفاصل
بينهما. ستة أيام اقتطعتها هذا العام كما اقتطعت اربعة أيام منذ عامين. ستة أيام
ثلثها لأهل أريد أن استذكر و إياهم لحظات هي التي شكلتني و ثلثها لمدن و شوارع و
أماكن هي التي عرفتها و عرفتني في وطن الانتظار
هذا ووطن متقاسمي الانتظار و متقاسمي الكعك القبلي، و ثلثها للملمة الأوراق و
الحقائب.
إن لم نلتقي الان ليس لأنني لم أرد بل لأنني أردت أكثر
مما استطيع و لاني ارتكبت خطيئة الارتجال مدفوعا بضرورة اتخاذ القرار حين لم اجد اكثر من
6 أيام.
احلق بعد يوم و بعض يوم عائدا إلى شوارع تسكعي حيث أنام
فوق الخرائط و أمام المحطات و حيث أكتب عن وطن تغمره الرمال و تدمر رجالات القبيلة
فيه الاحلام ، و تموت بناته في اسرة أزوراج بعمر آبائهن و تتدمر قلوبهن في انتظار
قصة لن تبدأ لتكتمل و سينتحر بطلها أمام أول عرض قبلي، أكتب عن وطن مثقفوه مرهونون
لكأس قهوة خارج على قوانين القهوة و نصوصها أعده اجنبي في مجتمع لا يفهم الا الشاي
و الرغوة و صار يبيعه بسعره في أماكن تشبه وجه المثقف ووجه المدينة، لكن اترك
أحلاما دائما أكبر من ساستنا البؤسسا و أمالا ببسمة طفل يقيم في ضاحية نائية من حي
عشوائي في منطقة ملح.
إن لم نلتقي الان فشيء مني دائما هنا لكم و شيء منكم دائما في أي مكان معي
كل عام و على
هذه الارض ما يستحق الحياة