Saturday, November 10, 2012

مثقف العقدة و عقدة المثقف في موريتانيا



عبد الله  محمد عبد الرحمن
كاتب صحفــــــــــــــــــــي

في أي مجتمع فإن المثقف يشار إليه و يوضع في إطار خاص و لحضوره وقع خاص. فالمثقف بعيدا عن تعريفاته الأكاديمية هو ذلك الشخص الذي جمع معارف و خبرات جعلت منه مخولا بالحديث في الشأن العام و مقدما لمفهم معطيات الأمور و تفحص اتجاهاتها، لذلك يعتبر صمام أمان المجتمعات كلها و محركها و الآخذ بيدها إلى جادة الصواب. فكل الثورات الثقافية و الصناعية و الإقتصادية و حتى السياسية كلها كان خلفها مثقفون و مثقفات كتبوا و نادوا و نزلوا إلى الشوارع و كانوا على مستوى من النضج يسمح لها بأن يومنوا بقضايا مجتمعات و أمم و يضحوا من أجل هذه القضايا معبئين بتلك الشحنة المعرفية.
قد يتسم الكثيرون بصفة المثقف أو يدعونها لكن حينما لا يتصل المثقف بتفاصيل معطيات الحياة الدقيقة في مجتمعه و يتفحصها و يعمل عليها فيغربلها فيعمل على إبعاد ضارها و ترسيخ نافعها، و يتحول إلى عنصر يغير في المجتمع بآرائه و تطلعاته و نقاشاته فإنه يتحول إلى مشكلة من مشاكل هذا المجتمع، و كلما كان المثقف حياديا كان أكثر جدوائية للمجتمع و قدرة على عمل التغيير فيه. و هذا لا يعني أن المثقف لا يكون مثقفا إلا حين يكون حياديا كونه في كلتا الحالتين يجب أن يتسم بنوع من الموضوعية في الطرح و الدفاع عن اتجاهه أو انتماءه مستمعا للآراء الأخرى الموافقة و المخالفة. لكن أن يتحول المثقف إلى إمعة و آلة فينتمي لتيار أو جهة و تصبح بالنسبة له الأولى و الأخيرة و كل شيء و يدافع عنها بعمى جاهلي و صلابة متخلفة لا تدعمها الأدلة و لا القرائن، فإن حالة المثقف هنا أحسن منها حالة الأمي الأبجدي حتى. في مجتمع من العقد على غرار المجتمع الموريتاني، وضع المثقف مختلف فهنالك نجد مثقف العقدة و عقدة المثقف.
تبدو العبارة مجرد عبثية بترتيب ثلاث كلمات، لكن الأمر ذو أبعاد تبعده عن تجريد العبثية. في مجتمع يكسر الخصوصية و يتحدث كل أحد فيه عن أي أحد و عن أي شيء و مطلع فوق الحد و مثقف كله في الحد، في مجتمع كهذا يبدو سؤال بأهمية: ماهو دول المثقف في المجتمع يبدو ضربا من السذاجة أو السطحية، لأن المجتمع لا ينتظر من المثقف دور فالمصطلح غير مستوعب بشكل لائق، فالمثقف في حالات كثيرة يقصد بها المجتمع الشخص الذي تعلم و يعيش حالة فراغ كبطالة مثلا ، أو هو من تعلم تعليما عاليا و لم يجد المنصب الملائم له في نظرة المجتمع، تبدو لي الفكرة سطحية جدا لكنني ملزم بأن أوردها فتعلمت أني حين اكتب عن المجتمع الموريتاني فلا أستبعد أي مصطلح و لا أي فكرة مهما بدت سطحية لأنها كلما كانت تقرأ بسطحية فهي تعكس واقع المجتمع بدقة. باختصار المجتمع ينظر للمثقف و حديثه كنوع من الخلل العقلي و عدم التمتع بكامل القوى العقلية ، هذا إذا تكلم و إذا كتب لن يجد من يقرأ له. لكن الخطيئة كيف تعامل المثقف مع الوضع، انقسم المثقفون إلى اثنين لا ثالث لهما يعيش كل منهما حالة استسلام لنظرة المجتمع عن علم أو عن غير علم ، اصبح هنالك  مثقفون استسلموا لمتطلبات المجتمع و رؤيته للثقافة و صاروا يتسمون بالإسم و يسمع منهم لكن حقيقة هؤلاء أن الثقافة في أحيان كثيرة براء منهم و من لديه رصيد طمرته ترسبات أشياء المجتمع و لقاءاته و أحاديثه. ففي مجتمع من ثلاثة ملايين شخص و ما يزيد على مائتي يومية و اسبوعية مرخصة و نسبة قراء و مطالعة لا تكاد تصل 1 في المائة رغم انعدام الإحصائيات يسهل أن تعرف المثقف من غيره فالثقافة ليس كالسياسية التي تتحمل المتسيسين.
الجزء الثاني من المثقفين هو مثقفو العقدة، و هم جماعة لديها معارف و معلومات و خبرات تجعل منهم مثقفين بالشكل الحقيقي و الصحيح بل أكثر اطلاعا من مثقفين في دول و أماكن أخرى حيث يتميزون بسعة مجال الأطلاع و كثرة المعارف و تشعبها. حين تجاوز هؤلاء إشكالية أن يكون في ثقافتهم شك سقطوا في فخ العقدة. حيث يقابل هؤلاء بنوع من الإهمال من طرف المجتمع، و يتملكهم هذا الشعور. و لأن البديل منعدم لحد ما ما لم يعمل هؤلاء على خلقه من خلال العمل بطريقة تفرض على المجتمع أن ينظر لها بطريقة مختلفة. و يأتي الحديث عن البديل من خلال مثلا وجود نافذة يطل منها الشخص على العالم أو على الآخر أيا كان في ظل عدم تعاطي المجتمع يطل بآرائه ووجهات نظره و يُسمع و يستمع. حيث لا دور النشر و لا صالونات للنقاش الثقافي و حيث التعاطي مع الثقافة عموما على المستويين الرسمي و الشعبي متساوي.
 أمام هذا الواقع أول ما يلجأ له المثقف الإنخراط في السياسة فتجد كل المثقفين الموريتانيين مثلا اليوم يكتبون في السياسة و فقط في السياسة بإستثناء البعض ممن تنازل و لم يجد طريقه إلا من خلال اتباع فكر معين او مدرسة و في أغلب الأحيان ليس إيمانا بقدر ماهو طمع في المتحمسين لها من الشباب و لا أقول المثقفين ولا المجتمع. فتجد الواحد مثلا يكتب و يقول أنا اعتنق الفكر الماركسي حيث ان هنالك من يميلون للفكر مثلا بعدها يحاول هو أن يخلق منهم ذلك الجمهور المفقود و المحوري لكل مثقف، حيث أن الإشكالية كلها تدور حول كيف تخلق الجمهور.
فالذين يكتبون في السياسة ليس فقط لأن السياسة توجد في الثقافة و في المجتمع و في الإقتصاد و علاج قضاياها سيعالج كل الإشكاليات المتعلقة بالمواضيع الأخرى، لا بل إن كتب المثقف هذا الموضوع سيقفز المتتبعون و هي عقلية هدامة مترسخة في المجتمع سيقفز الجميع ليصنفه ثم سيصنف من أتباع فلان أو فلان أو الحزب الفلاني و هكذا فأنصار ذلك الحزب أو التيار سيتعاملون معه كقلم لهم و يتابعونه ثم يجد هو فيهم ما يمكن تسميته جمهور و يبدأ يدافع و يهاجم في تيارهم حتى يجد نفسه لحظة و هو ضائع لا يعرف أن يحدد احداثياته.
و اعتزال المثقف الموريتاني للحديث أو الكتابة في أي مجال غير السياسة و هو أمر ملحوظ يجعل من هذا المثقف عالة و إشكالا  اكثر مما حل أو باحث عن الحل، فتجد المثقفين يتبارون في الجمل الرصينة و العبارات الرنانة و الافكار الضخمة و التي لا تمت للمجتمع و لا لواقعه في صلة في حين أنك إذا نظرت و حاولت أن تقول ربما هذا الخطاب موجه لجمهور عالمي أو لنخبة ما، تجد الكاتب يكتب الموضوع و يحسب انه موجه للمجتمع. و في هذا الحالة يبقى الخطاب على مستوى المثقفين و حين تأتي لما يحصل بين المثقفين تجد أن الخطاب الذي بقي على مستواهم لم يكونوا هم على مستوى ليطوروا منه فيجعلون من نتاجا يقتات عليه المواطن البسيط و يتابعه و يجد فيه ذاته. بل غالبا يتحول سجالا يعكس نوعا من الترف الفكري و اللغوي الزائد.
و حالات التناقض هذه و البحث عن جمهور جعلت المثقف الموريتاني شيئا فشيئا تتملكه تلك العقدة التي تستحكم فيه مع الزمن حتى تتجلى في شخصيته. فأصبحت ترى فيهم النرجسية و الإحساس الزائد بالذات و الإستعلاء و منهم الضائع الذي استحكمت العقدة فيه حتى لم تعد تعرف حتى أن تصنفه. فتجد واحدا مثلا أنجز قطعة مسرحية في قمة السخافة على المستوى الدرامي و الفني و يتعامل مع المواطن و حتى صديقه على أنه دونه، و تجد الشاعر و الصحفي و الكاتب و غيرهم تجد هؤلاء يتعاملون مع الناس معاملة تعكس بجلاء حالة العقدة. فتلك الأعمال التي لم تخرج بعد إطار الهواية أو الإنتاج الذاتي الاستهلاك و كردة فعل على طريقة استقبال الجمهور لها و تعاطيه معها و لأن المجتمع لم يقيم هؤلاء على أساسها كردة فعل تجد الواحد يبحث عن ذاته من خلال محاولة خلق تلك الهالة من عدم. و هنا لا يضر بنفسه كمثقف فقط بل كإنسان. و تتحول ثقافته نقمة عليه فهو لم يعرف أن يترجمها إلى لغة تصله بالمجتمع و تترجم الحالة الاجتماعية و تردها إلى المجتمع بلغة أكثر قربا منه. و يقول لك الواحد أنا اكتب أساسا للنخبة و السؤال هو ماذا تفعل النخبة بما تكتبه لها و إن كانت كل النخبة غير قادرة على خلق مجتمع من العامة فلا قيمة لإنتاجها خاصة أن لا مستهلك غير محلي له في أحيان كثيرة.
فيا معشر المثقفين، حاولوا التخلص من العقدة و اعرفوا أن جمهور المثقف يختلف عن جمهور النجم السينمائي. و التناقض الواقع فيه المثقف الموريتاني هو أنه هو لا يعرف أن يلتزم الحياد و يريد أن يخلق جمهور و جمهورك تخلقه حين تكون لك أراء تختلف مع هذا مرة و توافق ذاك أخرى. أما أن تكون بوق فكر أو تيار أو حزب فأنت لا تخلق جمهورا بل تنتج لجمهور موجود. و المثقف دون جمهور له لا يعدو بوقا. أو آلة أربكتها العقد.