تناول الصائمون فطور يوم عرفة ، و تناول الغير صائمين طعاما يسد رمق طريق طويل اقتادهم لذلك المكان في ركن قصي من مدينة مترامية الأطراف. كانت موريتانيا ذكورية في أوضح تجلياتها كل الجهات و اللهجات على اختلاف تعابيرها، تحدث الجميع في السياسة في الثقافة في المجتمع في القبيلة في الجهة. كان الطلاب و التجار و بين ذلك و المنتظرون يلتقون على احاديث أيام خالية بحسانية تكاد تنعدم في يومياتهم الموزعة بين حطام التعابير التركية المرهقة، و يوميات تتقاسمها غرف مبعثرة في أشياء مدينة.
البعض يدافع عن عزيزه و الآخر عن منصوره و لا يعدم مدافعون عن آخرين. و كان آخرون يهتمون لتأصيل صلة القرابة بين هذا و رسول الله و ذلك و رسول الله أبوه أم ابنه أم بن ابنه و ما إلى ذلك من صلات القرابة.
كنت أستمتع و أضحك ضحكات مؤخرا انحصرت في ضحكات تكون مجاملة في أغلبها إلى جانب صديق أو صديقة على فنجان قهوة او شاي أو وجبة طعام مرتجلة في مكان عام، صديق أو صديقة رمت بهم أشياء غربتهم تماما كما رمت بي إلى أرصفة اسطنبول.
كنت أستمتع و أسمع الجميع ينظر في السياسة و الساسة و أحاديث الخيام بكل تفاصيلها، بكل الخلفيات الجهوية و الايديولوجية، كانت تلك فسيفساء جميلة من معطيات شتى لمجتمع التناقض و الفوضى و الفراغ.
في النهاية و كعادة لقاءات شبابنا ، فهذا شيء جربته في المغرب في الجزائر في تركيا في أماكن أخرى ، حين يجتمع الشباب تجد الجميع على غرار مجتمع الفراغ يترصد سؤال واحد يدور في رأسه فقط واحد؟ أصبرهم من سيبتلعه . أنا رجل خبر قراءة ملامح رجال القبيلة و أفعالهم و ردات أفعالهم و أعرف كيف أغلق الباب على سؤال من ذلك القبيل.
يلتقي الجميع و في النهاية تأتي فقرة التعارف، هي فقرة تثير الضحك و الاشمئزاز و اليأس. في موريتانيا و في مرات كثيرة حضرت مع مثقفين و ساسة و غير ذلك من تلك الغوغاء التي تعج بها مجالسنا في الركن القصي الهاديء الخامل بين رمال تطمره و مياه تغمره، يقدم الكل نفسه و يركز على الجهة و القبيلة و حين يأتي دوري أعرف عن نفسي بالطريقة التي أراها مناسبة ، و لا أترك بابا لأي تعليق فرجالات القبيلة و أشبالها هم أشياء يسهل أن تريهم تجاهلك المطلق لكل المعطيات.
في مساء يوم عرفة ذلك حصل نفس الشيء، حين ألقى احد القوم الذي لم تخل تعاليقه من مدعاة للضحك حتى من بلية أو سخرية من قدر، طلب التعارف، نعم جميل أن يتعارف الجميع لكن التعاريف في قواميسنا اللغوية في الخيام مختلف قليلا، اختلاف لا أستصيغه أنا الذي حرقت الخيام بمعطياتها أول ما فرقت بين البرد و الحر و الجنة و النار.
قدم معظم الحاضرين أنفسهم ، فلان أبن فلان من المنطقة الفلانية و القبيلة الفلانية. ما إن ينتهي حتى تتردد الأصوات عن يمينك و شمالك " و خيرت" و " وخيرت" باختصار هي عبارة يمكن تفصيحها على أنها " كريم من كريم أباؤه كرماء" . لكن الحقيقة كلمة " و خيرت " هي أكبر دليل على أن المجتمع الموريتاني مجتمع يمكن ان تقول جازما أنه مجتمع النفاق بامتياز، فمعنى "وخيرت" أن هنالك "و رخست" التي هي نقيضها و مع ذلك قل أنك من قبيلة "المريخ" سيقولون " وخيرت" قد يقول احد اشبال القبيلة لان شعب طيب و جميل فوخيرت بكل الناس، تلك من الاشياء التي يبرر بها مجتمع الفراغ و النفاق اشيائه البالية. وصل دوري، قدمت نفسي كما اعتدت : اسمي و ما يخصني و ما يفترض ان يخص الآخر عني. رأيت التساؤل و الانتظار في عيون البعض، لذلك ختمت ب "سي تو" و هي عبارة فرنسية محلها يمكن استخدام "أوف" لكنها لا تبدو تعبيرا لطيفا بالنسبة لي. تعارف الجمع و تبادل التحايا و تعانق، و عدلت حقيبتي و رفيقتي على ظهري و سماعتي حول عنقي و رتبت "شالي" أيضا حوله، و عانقت الجميع و لقيت شبلا عن الباب ، بدأت معه حديثا حول جامعته و دراسته، و فجأة سألني ذلك السؤال الذي هو أكثر سؤال أكرهه و كثيرا ما يؤدي إلى كره سائله أو على الأقل وضعه في خانة أشبال القبيلة الذين لدي طريقة خاصة في التعامل معهم، التفت إلي الشاب: "أنت من أي الناس" . صمتت ربما لأمتص تلك الرغبة التي اجتاحتني في صفعه على إحدى خديه المنتفخين ثم تمالكت نفسي : و صمت ثم رميته نظرة احتقار تليق بمقداره المختزل ضمنا المنبسط شكلا. كان ولدا من ابناء لخيام و شبل قبيلة وديع، بدا لم يستوعب ، قلت له : هذا سؤال أكرهه و لا أجيبه و أكره سائليه.
لا أعرف كيف شعر الرجل ، لكن شعرت بالارتياح و ابتسمت و انا أعدل السماعة على أذني و اشغل احدى مقطوعات ليونا لويس.