في لحظة لست أنا من اختارها، بل هي التي اختارت نفسها و اختطفتني بكل وقاحة و أمام كل أشيائي المنتظرة، و أجلستني إلى المقعد المنفي هنالك في ركن الغرفة القصي.
هنالك حيث تتشكل اللحظة و يتشكل الحرف و يحوم طيف الذكريات، هنالك حيث تتعطل ماكينات الصيرورة المرهقة، و يتجمد الحاضر من أجل فسحة من الماضي تقبل على عجل ، و تتراءى ملامحها في المدى الممتد بين زوايا الغرفة ما تفتؤ أن تكتسح المجال كعاصفة رعدية، و تسلم معطيات الواقع نفسها للحظة التوقف.
تلك اللحظة هي التي اختارت أن أتذكرك فيها و أكتب عنك فيها و أتلو الصلوات في المحراب و أقرأ مقدساتي لأفند واقع غيابك، و أفتح عن صفحتك من كتاب الرحيل و الصمت الطويل. ما إن تخترق بي لحظة التأمل تلك معطيات الزمن، حتى تنسحب اللحظة بكل أشيائها، و تتركني معك دون زمان و لا مكان غير معالم الرحيل في الزمن و أصوات قطاراته و محطاته.
الكتابة عنك مريحة لكنها مرهقة، ترى هل تستوعبين دقة هذا التناقض ؟ تختلف جدا عن الكتابة إليك، فالكتابة عنك نوع من الاستسلام لاملاءات اللحظة، أكتب و أحدث نفسي و أسر إلى ذلك المقعد هناك في منفى الحروف و الكلمات ببعض أسرارنا الدقيقة و معطيات ماضينا البعيد و القريب. حين أكتب عنك فأنا أغضب على واقع الغياب و حقيقة الثلاثية الزمنية، أكتب عنك أحيانا لأجلد بعض المواطن المتجمدة و الخارجة عن قوانين الكلمات و الذكريات، و لأستدعي الماضي أحيانا لمحكمة الحاضر و أدعي تقديمه زلفى لمعطيات مستقبل لا زال مجهولا. أحيانا أشعر أن الكتابة عنك هي مجرد محاولة يائسة للهرب أو النسيان أو محاولة لضبط ساعة الوقت في ساعة متأخرة.
حاولت جاهدا تصنيف الكتابة عنك ، قلت ربما هو تعلق بالحياة الأولى بالصرخة الأولى ، ربما استحضار الغياب و محاولة لإهمال الزمن، ربما هو استدعاء روتيني طبيعي للذاكرة و محاولة لمسائلة النسيان. درب من الجنون أو شيء من الشك، صدقي لم أستطع تصنيفها غير استسلام للحظة و استجابة لإلحاح القلم لدعوة المنفى الاختياري.
أما الكتابة إليك فهي مختلفة، إنها تجسيد الذات في لحظات انتظار الرد، و استقراء لتفاصيل أحداث المستقبل من خلال الرهان على طبيعة الرد. الكتابة إليك نوع من اتقان فن العيش، و تقبل معطيات الحياة، نوع من القدرة على التأقلم.
حاولت الليلة الاعتذار للحظة و القلم و المنفى، حاولت أن لا أستسلم لمغريات الدعوة، فقررت أن لا أكتب عنك أو إليك، بل أكتب عن لماذا أكتب إليك أو عنك؟ و اكتشفت أنه كان علي قبول الدعوة، فأنا لم أجد الإجابة، وجدت فقط أني دائما سأكتب عنك و سأكتب إليك، و لا أدري لماذا. ربما لأنك ترفضين الرقود بكسل بين صفحات التاريخ الجامد. و تريدين أن تبقي تاريخا يخلط علي ما تعنيه الثلاثية الزمنية.