على مقعد خشبي فاتح الحمرة حديدي القوائم تابع لتجمع بلديات
اسطنبول كما نقش عليه ، أجلس الآن في حالة استسلام مطلق للحظة تختزل معطيات كثيرة
أصغر أنا من أن أتخلص من اختصاراتها و اختزالاتها للأشياء. عن يميني يجلس عجوز
جعدته عبثت السنين بملامحه ، يبدو من شكله أنه فرنسي و من فرنسيته التي لم تعد
شفاهه قادرة على ثقل مصطلحاتها و لا نفسه قادر على تنظيم مخارج حروفها ، فرنسية
كان يتحدث بها قبل قليل عبر الهاتف، ربما أحمال السنين أقعدته عن أصدقائه الذين
جاؤوا معه. إلى جانبه وضع حقيبة سوداء صغيرة تليق بيده المرتعشة الضئيلة. هو ليس
مستسلما فقط للحظة بل يبدو مستسلما للزمن مع مكابرته لنهاية صامتة فهو هنا بين
ضجيج لحظات العابرين و السائحين و السارحين . رغم استسلامه لازال يحاول سرقة لحظة
قوة قبل لحظة نهاية لربما لا
تشغله كثيرا و لا يراها في افق بصره الذي لم يعد يمتد
لأبعد من مسافة تقارب الإنعدام.
أمامي تمتد إلى السماء منارات الجامع الأزرق ، ست منارات
تحيط أربعة منها بقبة كبيرة محاطة بقبب أصغر منها حجما ، المنارات تنتشر في نظام و
بأبعاد غاية في الدقة. إلى اليمين منارتان بنفس الطول تنتصبان انتصابة حارسي بلاط
عند بوابة ملكية دونما حراك. تبدو السداسية
في امتداداتها لوحة فنية تعتمد نظام التناظر الهندسي بشكل لا يقاس على سلم
الروعة و لا الجمال العاديين، يحتاج مقياس خرائط . الطيور بطريقة سيزيفية تحوم حول
المنارات و بينها دونما وجهة و كأنما تتمايل على أنغام موسيقى دينية هادئة ، تبدو
كفرقة رقص محترفة أو كراقصي الحفلات الصوفية في مدينة "كونيا".
خلفي أيا صوفيا بكل متاهاتها التاريخية و مساراتها
الجغرافية المثيرة، كنيسة فبلاطا امبراطوريا فقبلة قاص و دان يتقصى آثار الإنسان
في رحلته عبر عصور يعبرها لنهايته يضع عليها بصمة بحجم وجوده. قبة كبيرة إلى جانب قبتين متوسطتي الحجم تمتد من
خلفهما عنقا منارتين إلى جانبهما منارة احمرت حجارتها من كثر ما تغشاها مطر السنين
و رياح العصور و اكتست غبارها بسلمها و حربها. تبدو آيا صوفيا فوضى تاريخية بديعة
. جدران و أسقف تتبعثر بطريقة يتخيل
للرائي أنها عشوائية . يبدو الإنسان أصغر من صنعه دوما.
بين معلمين يقدمان في صمتها الأبدي و ضجيج الماضي الذي
يسكنهما حقيقة الإنسان المجردة من
الماديات. حقيقة لا يقوى بريق إعلام و لا جموح طمع على طمسها، رسالة تقدمها جدرانهما
الحمراء من كثر ما بكت دمعا تحجر و صبغته الصيرورات بألوانها. أمام جشع إنسان يطارد لحظات لا يعرف أيها
ستغتاله.
تنطلق الآن آذانات صلاة الظهر، كل شيء هنا يسلم نفسه للزمان
و المكان حتى الأصوات. فلا تعرف من أين يأتي صوت ما و لا أين يذهب آخر. اقترنت
أصوات الآذانات فلا تعرف من أي يأتي أشرقي هو أم غربي ، تقول للحظة يأتي من تلك
المنارة إلى يميني ثم تقول لا بل من تلك الواقعة خلفي ، في النهاية تكتشف أن تقوم
بعملية عبثية ، و تكتشف أن الأمر يتعلق بفسيفساء روحية اصوات اقترنت على اختلافها
و حمل المدى صداها فمدي سمعك الآن حدودها. الإيقاعات الصوتية منتظمة و المؤدون
يتبادلون الادوار بشكل مذهل ..... يتواصل