عدت لاسطنبول، كعائد لوطن كان رمضان قد انتصف و زاد أياما عشرا على نصفه، فلقد كان يلفظ أنفاسه الأخيرة. رسالة ضائعة من صديق وضعته الأقدرا و صدف اسطنبول ذات مساء في طريقي، لأتقاسم معه وجبة طعام في عجل في مطعم مطل على كلية من كليات جامعة اسطنبول في منطقة بيازيت ليخترق بنا تراموي اسطنبول جسدها باتجاه معرض للكتب و المعدات المكتبية. هناك اكتشف جمال اللهجة حين تداعبها شفاه عثمانية سكنت بحب عربية سكن أهلها بالضياع. هناك وجدت عثمانية تفرق بين الفصحاء و اللهجة في حين في عالمنا العربي يصعب على البعض احيانا التمييز بين الفصحاء و اللهجة فتجد كل مجتمع ينظر إلى لهجته على انها اللغة العربية الفصحاء التي كان يتكلمها عروة بن الورد و تأبط شرا و عمالقة اللغة الجاهلية و ما تلاها.
احيانا الاشياء التي لم ننتظر يكون لها حضور كبير في حياتنا. هنالك انتهى اللقاء الأول مع ذلك الصديق المتسكع هو الآخر شأني على أرصفة غربة تتخطفنا من أوطان نشعر فيها بالغربة اكثر لا تتسع لرؤانا و لا احلامنا على صغرها و لا أشيائنا على بعثرتها. في ذلك المساء البارد الماطر غادرته و تركته في انتظار سيدته. ما اجمل ان تكون لرجل عربي سيدة عثمانية . يتسع قلب الرجل العربي لكل انواع النساء فرغم كل شيء هو تربية امرأة عربية بكل اشياء العروبة.
عدت لاسطنبول قبل ايام كعائد لحضن ام بعد اشهر من صقيع الغربة و النوم في محطات القطارات. احسست شغفا تجاه كل شي ء طعامها و شرابها وجهها الصامت كل شيء. اقترح علي صديقي المسيحين ان يتناولا معي الفطور ، ما كنت لأرفض دعوة ذلك الرجل الذي يشكل تجليا روحانيا يكاد لا يقدر عليه البشر. في ذات الاثناء اتصال عابر رسالة هادئة بين رسائل هاتفي الصامت، ربما لا يعرف الكثيرون أن هاتفي صامت في اغلب الاحيان ففي الاوقات التي انتظر فيها رسائل او اتصالات اضعه جنبي بحيث ارى المكالمة و لا احتاج طنينا و لا رنينا يعكر صمتي.
كان ذلك الصديق كما اختفى في شتاء اسطنبول يوما يخرج في صيفها في يوم اخر رغم انه صيفي إلا ان زخات مطر تنتاب صيفه. و كأن صديقي مرتبط بالمطر صيفا و شتاء. اراد لنا أن نتناول الفطور معا. ركبت تراموي من جديد في مدينة كبيرة كاسطنبول صديقك الوفي دوما يكون تراموي يمكن ان يحملك من طرف لاخر بسرعة. في محطة اكسراي نزلت لأني اردت اكتشاف صجيج اكسراي اكسراي منطقة في اسطنبول ينصهر فيها الافريقي الهارب من السوط الافريقي و الافريقي المجرب لانتفاخ جيبه و العربي السائح و العربي التاجر و العربي اللاجئ بوتقة من الاشياء المتناقضة تعتبر مصدر الهام مهم لرجل يتامل الضائعين و المغتربين في متاهات ضياعه.
وصلت "الطربوش" كما طلب إلي صديقي، يعني الطربوش قبعة توضع على الرأس معروفة في منطقة الشام بالتحديد، كان ذلك رمزية واضحة لأن المطعم عربي و الطعام عربي. جلست ووصل صديقي لم يكن في جلباب ابيض بشماغ احمر . كان في زي متناسق هادي الالوان يبدو منه ان الذوق العثماني و العربي حين يلتقيان يشكلان منظرا جميلا، ألوان رمادية بسمته التلقائية تعلو وجهه و هو على مسافة امتار مني . كان المطعم رويدا رويدا يمتلؤ. حضرت اسرة في سيارة فخمة و حجزت طاولات وضعت عليها حجما من دولارات النفط على رأي صديقي الافريقي، لكن لا ضير ما دامت تذهب لجيب ذلك الاستاذ اللاجيء كما اخبرني صديقي صاحب المطعم الذي بدأ المشروع بعد ما وصل هربا من العنف الحاصل في سوريا. إلى يسارنا كانت اسرة عربية اخرى تستمتع بالطعام العربي في الجغرافية التركية.
قدم شاب لا شك هو الاخر هارب من العنف في سوريا و طلب إلينا ما نريده. تركت لصديقي ان يختار لي فأنا لا زلت ذلك الرجل ضعيف الثقافة حد الانعدام فيما يخص المطبخ و الطعام. اسمع تسميات لكن لا افرقها و لا محتواها. مع صديقي تحدثنا في كل شيء كعادة اللقاءات ، الاجمل في صديقي انه فهم أني من الذين يريدون نقاشا عفويا لكن دون الانزلالق لمواضيع لا تخدم كتلك التي يتناولها شاربو القهوة و النرجيلة في مقاهينا العربية . حيث العالم يشتغل و يحتاج ساعات يومية اضافية أما في عالمنا فنحتاج اشياء نقتل بها ساعات ننظر إليها على انها اضافية لا نحتاجها ضمن الاربعة و العشرين ساعة.
جاء شابان شاميان بكل معطياتهما باطباق مختلفة بتسميات مختلفة، ذلك مشهد يحصل في حياتي نادرا فأنا رجل يكتفي بقطعة على عجل من ماكدونالد أو طبقين من مطعم يقدم وجبة جربتها و اعرف اني احبها ، في احيان كثيرة لا يدعوني حتى الفضول لاجرب اطباقها اراها على مقربة مني لأني اعرف انتقائيتي بخصوص الطعم و اللون. حمص و فلافل و ارز و شاورما و شرابان احدهما تمر هندي و الاخر و الذي شربته و اخترته لا اذكر اسمه.
أكلت أكل رجل قضى عشرة ايام في روسيا يتناول طعاما لا يعرف ان كان حلالا أو غير ذلك في غابة ممتدة على الجسد الروسي الشاسع.
لم أكن انتظر ان يخرج صديقي معداته و يقدم لي قهوة سعودية ، حمرة خفيفة لون هاديء لا هو بالحلو و لا بالمر . تلك المرة الاولى التي اجرب فيها القهوة السعودية تماما كما بالامس كانت المرة الاولى التي اجرب فيها القهوة السودانية، فهوة اهدتها لي سيدة سودانية حملها و حملني القدر لنلتقي في روسيا.
ربما لا يعرف صديقي حساسيتي تجاه القهوة فانا رجل قهوة ، أعرف القهوة و انواعها مقدار جهلي بالطعام و انواعه. شربت الكأس بعد الكأس و كان صديقي يسكب في الكأس قليلا قال أن ذلك هو المتعارف اليه عندهم. شربت تلك القهوة مع تلك الحلوى التركية. بينما كنت التهم في نهم خرج من المطعم ثلة من الشابات السمراوات عرفت من اول وهلة أنهن مغربيات كن جميلات مصحوبات بسيدتين تركيتين تتحدث احداهما الانجليزية فيما كانت الاخرى تسأل بالتركية عن الحساب و صديقتها تخبرها بالانجليزية انهن دفعن الى ان ترجمت الامر لها ففهمت. كانت ثنائية جميلة لهجة مغربية لغة تركية و اللغة العالمية تجد دائما حضورها . اردت ان اتحدث معهم لكن كنت مشغولا باخر قطعة من الفلافل. و اقبل عجوز يحمل باقة من الزهور الحمراء لا شك كان يراهن على رومانسية العرب.
انتهى المساء و عدت مشيا، مع نفس الطريق اجرب التسكع و اضع الاسئلة و الاجوبة و ارسم بعض الخطط في فضاء صمتي.