موضوع الإعلام وتأثيره في الشعوب المجتمعات، وبروزه كقوة أخرى في كل المجالات السياسية، الثقافية و الاجتماعية و غيرها أشبع دراسة و تحليلا و تنظيرا،فمعروف أن الإعلام و خاصة في زمن التقنية الجديدة صار فضاء عصيا على الإدراك و الاستدراك، فصيرورة الأحداث صارت تسترسل بشكل يفوق سرعة الضوء ووسيلة الرصد الوحيدة والقادرة على توفير قدر ولو يسير من المواكبة في الإعلام ، الذي صار يحسم المعارك قبل بدايتها ويقلب الخسائر انتصارات والانتصار خسائر وصار الباع الأطول والسيد الطولي في كل أحداث العالم .
هذه السرعة والتغيرات المذهلة تجعلنا نسأل أين نحن من هذا البحر الإعلامي الكوني المتقلب الذي لم تعد تكفي للنجاة فيه القوارب الشراعية ، ولا المجد فات اليدوية الخشبية ، إن التفاخر والعالم اليوم لم يعد بالقوة العسكرية أو الإقتصاديه بقدر ما صار بالتأثير الإعلامي العابر للحدود والمسافات . ولا مكان لمن لا يضع بصمة تشكل هويته فيه، بصمة تشكل له سلطة تأثير وقوة ردع، إنه عصر إعلامي بامتياز.عصر الميغاهرتز والساتلايت والدابليو دابليو دابليو .
مقاربات حقيقة نحن بعيدون عنها
العالم العربي يبدو هشا أما م هذه الحقيقة وبطيئا على مؤشر سرعة التغيرات والتحولات العالمية الإعلامية ، فرغم الميزانيات الصائلة المبذولة و وفرة المحطات التلفزيونية و الصحف و الجرائد أشكالا و ألوانا، والمواقع و الصفحات الإلكترونية، و رغم وفرة الأسماء التي تكاد تستنفذ قواميس اللغات و اللهجات، فإن هذا الإعلام ظل دوما حبيس قفص رقيب و سلطة وجيه،و خاطر فلان و فلان فالدولة تتحكم و تقيد الحكم رخصتها و المالك يتدخل بحكم ماله و دولة تتحكم بحكم احتضان المقر الرئيسي و هكذا يظل الإعلام الذي لطالما ارتبط بالفضاء و الحرية المطلقة في بلداننا العربية لأحبس تلك الفضاءات و الحسابات الضيقة ووصل الحال في بعض الدول العربية إلى أن صارت وسائل الإعلام محسوبة على جهات وتوجهات لأغراض ذاتية بحتة فيمكن أن نلاحظ وسائل خاصة بالترويج لفلان الفلاني ، ونجحت هذه الممارسات الظلامية في اختراق الجسد الإعلامي العربي الوهن والهش أو المخترق أصلا ،فكثرت الأقلام الرخيصة المدفوعة الأجر التي تكتب المقالات والآراء إلى جوار الموائد الدسمة ، وكثرت الصفحات المشتراة والمعروضة للبيع وصارت هيئات تحرير عليا بعيدا عن المؤسسة تتحكم بسلطة دراهمها ، سوق يهين قدسية الرسالة الإعلامية النبيلة ويخدش احترامها، وضاع الإعلام ورسالته واحترامه في هذه البوتقة الفجة وانحنى صوته ومنطقه أمام المنطق المادي الرخيص،وتلاشى دوره وأداؤه بين صراعات أفراد وجماعات وتيارات ورجالات نفوذ بل وحتى قبائل ، وبقيت هموم المجتمعات واهتماماتها تنتظر رحمة من السماء تعبر عن الهم وتحمل الاهتمام ،فبالنسبة للإعلام العربي تعتبر هذه المواضيع تجارة فاسدة كاسدة خاسرة لا تدر دينار ولا درهما في مزاد الضمائر هذا ، في سوق كهذه حيث إما أن تمجد السلطة والسلطان أو تكبل فيه أنت وآراؤك وأقلامك خلق القضبان .
جرف التيار الكثيرين إلا من رحم ربك وقليل ما هم ممن يعضون على آراءهم بالنواجذ مصرين على التعبير عنها والصدح بها ولو كان الصوت مختنقا ، متحملين سوط الجلاد يدفعهم إيمانهم برسالتهم واحترامهم لأخلاقيات مهنتهم إلى رفض الإغراءات ورد المتوددين ترغيبا والمهددين ترهيبا ، جاعلين من السجون فضاء لصقل وتحرير الرؤى للنهوض بالإعلام ورسالته ، إن الإعلام العربي ما لم يقيض له الله رجالات مؤمنين به يحملون هم النهوض به وتحريره من عباءة السلطة والخروج به من حرم شيخ القبيلة فعليه السلام ، إعلاميون وإعلاميات يدلون بالرأي الحر الذي يعبر عن الدمعة والبسمة ويحمل هم الأنا والأنت إلى الآخر بعيدا عن رغبة أو رهبة قد تخل بصدقية الرسالة و موضوعيتها .
بين الاستهلاك والتقليد ...
أضف إلى كل ما سبق أن إعلامنا العربي لطالما ظل ذلك المستهلك النهم والشغوف بالفاست فود ، ذلك المستهلك الذي لا يميز ولا يفرق بين الموائد ولا يشبع ، والأدهى والأمر أنه لا يطبخ ، فبرامج الواقع والسياسة والترفيه كلها تستورد ناهيك عن المسلسلات والأفلام المدبلجة من لغة الصين والسند والهند وربما قريبا لغة الزولو ، دون أن يقدم لهذا الآخر الذي أخذ منه شيئا عنه هو ذاتا و كيانا وثقافة وحضارة واستمرار وضع كهذا هو ما يؤدي إلى ضياع الهوية ومسخها وطمسها وتدمير هذه الهوية عند الجيل الصاعد الذي بدل أن يعبد له هذا الإعلام طريقا ترسخ اعتزازه بهويته يجلب له الآخر من خلال منتجاته الإعلامية ويخلق هذا لديه نوعا من ارتباك الهوية و ضياعها وتآكلها ذاتيا .أما الحديث عن تأثير خارجي لهذا الإعلام الذي يزال يعيش وضعية الاهتراء هذه فهو درب من الاختلال ، فما ذا سيشاهد مثلا مواطن تركي أو فرنسي أو أبريطاني أو......في وسيلة إعلام عربية ؟ هل سيشاهد تمجيد و تأليه السلطان أو النائب فلان أم الترويج لرجل الأعمال . أم برامج حوارية تقدم حسب مقاس و مزاج الضيف التي هي مجرد فبركات إعلامية كتب الضيف سيناريوهاتها ، أم مواضيع الجرائد المكررة والمملة والغير موضوعية أو أمور حتى المواطن العربي لم يعد يلقى لها بالا و أصابته بالضجر .
بين الفشل والعجز...
إن فشل الإعلام في حمل هذه الثقافة و الحضارة العربية و تجربة الإنسان العربي الغنية والثرية و عجزه عن حمل هويته للآخر، مرد و تساؤلات و إشكالات كثيرة، كمسألة الهوية العربية في ظل العمولة مثلا و هي التي سمحت للرسالة و التصور و الفهم الخطأ أن ينتشر عند الآخر عنا كعرب و مسلمين و أعطت الفرصة لنشر الشائعات المغرضة و محاولات طمس هذه الهوية التي لطالما تبجح أصحابها بأنها ضاربة في عمق التاريخ ممارسين هوايتهم القديمة التغني بالأمجاد دون أن يخلقوها خلقا جديدا قادرا على مسايرة ركب المشهد والصورة الذي يحكم العالم الآن بعيدا عن وسائل الحكم والسلطة التقليديين، مرد كل هذا إعلام تابع سطحي يردد اسطوانات مشروخة عن حاكم يأتي بالمطر من السماء و يمشى فوق الماء مرددا الشعارات بجدد كل لحظة وحين الولاء ، أو إعلام مستقل حر أو هكذا يدعي أو يُدعى عليه مقلد يقدم لك في أحسن الأحوال نسخة عربية لبرنامج هندي او أمريكي ولا ضير في هذا إن كان هنالك نوع من التبادل ولكن الضير كل الضير والضرر في أن ندمن ثقافة الاستهلاك .
و لا يمنع هذا أن هنالك استثناءات تذكر فهناك وسائل إعلام و إعلاميون شكلوا خطوة مهمة و هزوا هذا الكيان الخاوي ليخلقوا انطلاقات جديدة مشكورا لهم هذا الجهد، إلا أن الهوية الإعلامية العربية لم تتشكل بعد،و هذا هو الخطر الحقيقي المحدق، و ما لم يأخذ الإعلاميون و الناشطون في هذا المجال المبادرة للخروج بهذا الإعلام إلى فضاء ديمقراطي حر أرحب و أوسع فإننا سنبقى حبيسي وضعية تجعلنا ذالك الجسم المريض المصاب بالسكري و ضغط الدم و زيادة الدهون و من دون مناعة حقيقية.